لا تتركوهم للجهل
قبل سنوات وفي إحدى زياراتي للكويت التقيت صديقاً قديماً فرقت الأيام بيننا وجلسنا نستعيد شيئاً من الماضي. سألته عن أوضاع أسرته فقال بحسرة: البنات يجلسن في البيت لا نستطيع دفع أقساط مدارسهن والأولاد يدرسون بالتناوب. سنة لكل أخ حين يتعلمون القراءة والكتابة سنخرجهم جميعاً من المدارس. لن نستطيع التحمل أكثر. لم أسأل الصديق القديم إلى أين سيخرجون فنحن معا نعرف الإجابة.حين يكون الخيار بين التعليم والمعيشة يختار الإنسان المعيشة ليحافظ على بقائه، تلك هي الغريزة الطبيعية. وسيختار أغلب الذين عجز صندوق الخير عن تعليم أبنائهم المعيشة على التعليم، وسيخرج هؤلاء الأطفال الأبرياء، مؤقتا، إلى المجهول الذي نعرفه أنا وصديقي القديم ولم نناقشه رأفة بوضعه الشاق. هذا المجهول الذي لا نريد أن نعترف به لن يكون في مصلحة المجتمع ولا في مصلحة مستقبله الأمني والاجتماعي. فماذا نتوقع من مجاميع تنشأ بلا تعليم؟ ماذا نتوقع من مجاميع شابة ويافعة لم تتدرب على انجاز حرفي أو مهني وتفتقد القدرة الذهنية على تحقيق شيء، أي شيء، في زمن أصبحت فيه الأمية ليست عدم القدرة على القراءة والكتابة فقط وانما الجهل بالمنتج التكنولوجي؟
الذين يرون في عدم أحقية هؤلاء الأطفال في التعليم يقرّون بأحقية هؤلاء في الجهل، ورعاية الجهل أكثر تكلفة من تحمل تكلفة التعليم. فهذا الجيل القادم بلا ألف باء الكتابة هو بلا ألف باء التكيف مع المجتمع الذي يعيش فيه والإحساس بدوره الاجتماعي والوظيفي. لا أعرف حتى الآن بلداً يرعى الجهل ويتوقع منه مخرجات بنائية قادرة على المساهمة في بناء المجتمع. بل على العكس من ذلك من يرعى الجهل يرعى الجريمة والانحراف والسلوك غير الاجتماعي.قضية هؤلاء الأطفال والشباب ليست قضية الحكومة وحدها، وإن كان دورها الأكبر في رعايتهم، وإنما قضية المجتمع المدني أيضا. فمادام الحديث يدور حول صندوق خيري لتعليمهم فعلى المجتمع مسؤولية ألا ينضب وتجف موارده. المجتمع ومؤسساته التي ساهمت في أعمال خيرية في أصقاع الأرض لن تقف عاجزة عن تمويل صندوق التعليم إذا فتح لها المجال. المجتمع يعاني حالياً تفشي العمالة الجاهلة والمتابع للحوادث الأمنية يرى، وإن لم يكن متخصصاً في علم الاجتماع والنفس، أن أغلب الجرائم التي تمس الأمن الاجتماعي هي حوادث لمجاميع مهمشة تعاني الفقر والجهل وانعدام التعليم. وإذا تمكنا من وضع حلول لمشكلة العمالة الهامشية فلن نتمكن من حل جيل جاهل نحن نساهم في رعايته وتنشئته. الحل العقلاني لمشكلة هؤلاء الشباب والفتيات إذا فشلنا في تعليمهم تعليماً نظرياً هو أن نقوم بتعليمهم تعليماً يدوياً وحرفياً نمكنهم فيه من خدمة البلد في مجالات الحياة المختلفة. تأهيل هؤلاء الشباب للأعمال الحرفية سيخلق لنا جيلاً عاملاً إن لم يغننا عن استيراد العمالة الهامشية فسيرفد هذا الجانب المفقود حالياً. علموا أيديهم إن عجزتم عن تعليم عقولهم، دربوهم لأن يقوموا بسد حاجة سوق العمل الذي أصبح يشبه قاعات الترانزيت. افتحوا لهم مراكز تعلم المهن التى تحتاجون إليها حتى لا يصبحوا رواد دور الرعاية والسجون. البلد يعاني نقصاً هائلاً في مجالات عديدة بإمكان الشباب والفتيات البدون ملء فراغها. أما من يعتقد أن تركهم للشارع سيساهم في حل قضيتهم فإنه يخلق اليوم قضية شائكة تكلفة حلها باهظة جداً غداً. إذا لم تتمكنوا من ذلك أيضا فعليكم باقتراح السيد (جوناثان سويفت) عام 1729 لمن يعرفه!