منظور آخر: حرب اللسان
كم لهذا اللسان من قدرة غريبة على هدم حياة الآخرين؟! هكذا بمنتهى بساطة ينطق بالأذى الفادح إن تم بطريقة جارحة. أعرف إنسانة عزفت عن الخروج من بيتها إلا لتلبية متطلباتها الأساسية بسبب بدانتها، إذ لا يكف المتطفلون الغرباء عن «تسميمها» بتعليقات جارحة، رغم أنه ليس هناك أحد يمتلك الحق في أن يجرح مشاعر أي إنسان آخر حتى لو كان الأمر من باب الفكاهة، أو «الاستظراف»، أو الظن بخفة الدم، ولا أبالغ إذا قلت إن مزحة سمجة مع أصدقائك قد تؤدي إلى تدمير حياة أحدهم!
طبائع البشر تختلف، وكذا تركيبهم وتكوينهم الجسماني والفكري والثقافي يتفاوت ويختلف إلى أنواع، فهناك السمين، والنحيف، والطويل والقصير، والجميل والقبيح، والذكي والأقل ذكاء... تلك حكمة إلهية لا شيء في البشر يتطابق بصورة كاملة سواء في الشكل أو المضمون، أما الأمر الوحيد الذي ربما يتطابق ويجمع عليه كثيرون فهو ذلك السلوك الوقح الذي يمارسه البعض بإلقاء تعليقات سخيفة على المحيطين دون مراعاة أو احترام للخصوصية التي يفترض أنها حق يجب أن يحصل عليه كل شخص.نحن هنا في مجتمع يجيد اختراق خصوصيتك وينتقدها ويستعذب الاستغراق فيها، فترى إنساناً غريباً عابراً يسمح لنفسه أن يتحدث عنك ويعطي لنفسه، لمجرد أن تصادف وجودكما في مكان عام واحد، الحق في أن يجرحك أو يلقي بنواقصه على ناصيتك.أعرف عدداً لا بأس به من الأشخاص باتوا يعانون ما يمكن وصفه بـ»الرهاب الاجتماعي» بسبب مثل هذه التعليقات الجارحة عن أشكالهم أو هندامهم أو غيرها من أمور تتعلق بالمظهر الخارجي. وهناك آخرون باتوا يتسمون بالعدوانية بسبب إزعاج الناس لهم بالأسئلة والتعليقات والتدخل المستمر في شؤونهم، وهو ما دفعهم إلى البقاء في حالة استنفار للدفاع عن النفس، لاسيما أننا نعيش في مجتمع «هجومي» لا يرى أفراده عيوبهم أولاً، لسبب بسيط أنهم ينغمسون في أمور الآخرين متناسين النظر إلى أنفسهم.علاوة على ذلك، هناك كثيرون هوايتهم اقتحام خصوصيتك عن طريق الأسئلة الشخصية، وتلك مشكلة نعانيها جميعاً حينما ترى شخصاً لا تربطك به صلة قرابة أو معرفة وثيقة مجرد علاقة سطحية تكتفي فيها بالسلام والحديث عن الشأن العام، يفاجئك هكذا وبدون مناسبة بأن يسألك إن كنت قد تزوجت أم لا؟ وإذا كانت الإجابة بـ»نعم» يواصل... «هل لديك أبناء؟»، وإن كانت إجابتك بـ»لا»، وقتها يبدأ في إحراجك عن السبب ويصر على معرفته!ولا يتوقف الأمر عند ذلك، إذ تجد تلك النوعية من الأسئلة الدقيقة والمحرجة تتردد على ألسنتهم في موضوعات وأمور أخرى شديدة الخصوصية كالطلاق وأسباب الوفاة لأشخاص لا يعرفونهم، فتجدهم يسألون عنها بتفصيل بلا خجل أو تردد مهما تسبب ذلك في حرج أو جروح غائرة لأنها ربما تذكر الشخص بمشاعر دفينة يود نسيانها أو الاحتفاظ بها لنفسه. لم يتعلم كثيرون في مجتمعاتنا كيف يحترم الحاجز الذي يرسمه الآخرون لأنفسهم، ولم يدركوا أن الجميع ليس لهم الحق في تجاوز هذا الحاجز، ولم يتعلموا بعد كيفية احترام خصوصية الآخر غير مدركين كم الجروح التي تسببها تعليقاتهم وأسئلتهم، فمازالت تلك الابتسامة الصفراء لا تحرجهم ولا تجعلهم يكفون عن أسئلتهم ولا توقف ألسنتهم التي لا تكف عن إيذاء الآخرين! قفلة:عندما تتضخم الأنا عند الإنسان ويرى الناس من حوله أقزاماً، فمن الأفضل له أن يلتزم الصمت حتى لا يتفوه بأشياء قد يندم عليها عندما تبدأ هذه الأنا بالانكماش. كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراءيمكنك متابعة الكاتب عبر الـ RSS عن طريق الرابط على الجانب الايمن أعلى المقالات السابقة