لابد أنك شعرت بهذا يوماً، وعانيت... وقاسيت... وتعبت... ويئست... ثم قررت أن تتوب لله توبة نصوحا، وألا تعود لمثل هذا الأمر، وأن تبتعد عنه قدر الإمكان!

Ad

لعلك تتساءل عماذا أتحدث... وما الذي أقصده بكلامي؟!

حديثي هو عن الحوار مع الآخر، أي آخر من خلق الله، لا تواصل بينك وبينه أبداً، لا يفهمك ولا تفهمه، أنت في الشرق وهو في الغرب، ولا تستطيع مهما بذلت من جهد أن تصل إلى نقطة التقاء معه، تبدأ حوارك معه وأنت هادئ، مبتسم، متفائل، مطمئن، متسلح بعقلك، واثق بمنطقك، "كاشخ" بأدلتك وحججك، وما هي إلا دقائق معدودة من الحوار معه، تصبح بعدها منهك الأعصاب، محبط الشعور، مكتئباً، تلعن عقلك ومنطقك وحججك وأدلتك التي لم تحرك شعرة فيه!

فلا أنت أقنعته بشيء، ولا هو استطاع ذلك، ولا استفدت منه ولا استفاد، والنتيجة صفر لك- وصفر عليك، وربما احتدم النقاش بينكما واشتد واحتد، وكان صديقاً لك، فتحول إلى عدو، وكرهته... وكرهك، وقررت... أو قرر، ألا يجري أحدكما مع الآخر نقاشاً من جديد، بل لعلك ترى الآن أن من الأفضل ألا ترى وجهه أو يرى وجهك مرة أخرى، وأنها النهاية، فلا أنت بحاجة إلى أمثاله ولا هو بحاجة إلى أمثالك! والأمر ليس به مبالغة، فقد حدث كثيراً، كثيراً جداً صدقوني، وتحول الأصدقاء والإخوان إلى أكثر من أعداء والسبب... نقاش محتدم!

والأسئلة التي تبحث عن إجابة هي: لماذا حوارك مع بعض الناس دونا عن غيرهم صعب، مرهق، أشبه بجلسة تعذيب لا طائل منها سوى الألم، ولا نهاية لها غير الحقد والكراهية والرغبة في الإفحام أو الانتقام؟! لماذا لا يقتنع بشيء من رأيك مها كانت الحجج قوية، والبراهين واضحة ساطعة؟! وحين تتحدث بمنطق، لم لا يشعر بهذا المنطق؟ ولم يقول إنك أبعد ما تكون عن المنطق؟!

هذه الاسئلة عرضتها مرة على صديق لي أثق بعقله وفهمه وقدرته على الإجابة، ولأنه من أصحاب السوابق في هذا الأمر، رحنا نتباحث في الموضوع ونقلِّبه على جميع جوانبه، وفي النهاية، رأينا أن هناك بالفعل أسباباً تمنع الوصول إلى نقطة التقاء بين طرفين متحاورين، قال صديقي: العقول مستويات ودرجات، هناك العالي منها وهناك المتوسط وهناك الضعيف، ومن الصعب، بل من المستحيل، أن يتوفر حوار راق ومثمر بين نوعين مختلفين من هذه الأنواع، فالفارق فى المستوى سيمنع أى فرصة للالتقاء بينهما، ويجعل الحوار صعبا للطرفين وبلا فائدة ترجى منه، لأن لغة التواصل ووسيلتها معدومة تقريباً... حوار طرشان تقريباً!

ولم أخالفه، لكنني تفلسفت قليلاً، قلت: إلى جانب أن هناك درجات للمستوى العقلي، هناك أنواع للعقول، وهي عديدة، هناك عقل مادي متشكك في كل شيء، وهو درجات- عال ومتوسط وضعيف- وهناك عقل إيماني يقبل كل شيء يوافق إيمانه، وهو درجات أيضاً، وهناك عقل عاطفي يتلقى الأوامر من القلب وما يريده، وهناك عقل جماهيري مسيَّر يتبع القطيع أينما ذهب وسار، وهناك عقل متمرد يرفض كل فكرة لا تدور في فلكه، وغير ذلك كثير... وكلها درجات، عال ومتوسط وضعيف!

والحوار سيكون ممكناً وإيجابياً وذا فائدة لطرفين متحاورين من بين أفراد النوع الواحد من العقول مهما تفاوتت درجاتها، فمنهجية وطريقة التفكير والاستنتاج ستكون واحدة، وإن اختلفت في النتائج، وستجد قبولاً وتسامحاً عند كل طرف للآخر، مهما اختلفت التوجهات والقناعات والاعتقادات، أما غير ذلك... "فإنسى"!

ولذلك، قررت، بعد تفكير هادئ مع النفس، ألا أدخل في نقاش طويل عريض مع أحد، كائناً من كان، إن لم أجد ولو شبهاً بسيطاً، بيني وبينه فى منهجية التفكير، ومستواه، وطريقته، وأن يكون من نفس نوعية عقلي، ليس مهما إن كان أعلى أو أقل، المهم أن أستفيد ويستفيد، أن يفهم ما أقول وأفهم ما يقول، ألا أكرهه ويكرهني في نهاية الأمر، وهي نصيحة مني للجميع كذلك، لا تناقشوا كائناً من كان، قبل أن تتأكدوا من نوعية عقله، إن كانت تناسبكم أم لا، وحرصاً على سلامتكم النفسية والعقلية... قبل الحوار وأثناءه وبعده!