قلت في الجزء الأول إن الباب المغلق يلزمه طرق. وإذا طُرق بابك فأنت تتوقع شخصاً ما، لكن عند سركون بولص في قصيدة قديمة له (آلام بودلير وصلت) يصبح التخيل الشعري إشارة إلى ما هو غير متوقع مطلقاً. من القادم الغريب إذن؟

Ad

غزالة تأكل الملح على بابي

أي ملح بقي لي أيها الماضي؟

ثم من ذلك الزائر الغريب الذي كان يطرق باب الشاعر محمود البريكان ليلة بعد ليلة، محمود البريكان الشاعر المتوحد الأعزل تماماً، في قصيدة قصيرة له كتبها في عام 1984 يقول:

على الباب نقر خفيف

على الباب نقر بصوت خفيض ولكن شديد الوضوح

يعاود ليلاً أراقبه. أتوقعه ليلة بعد ليلة

أصيخ إليه بإيقاعه المتماثل

يعلو قليلاً... قليلاً

ويخفت

أفتح بابي

وليس هناك أحد.

من الطارق المتخفي؟ ترى؟

شبح عائد من ظلام المقابر؟

صيحة ماض مضى وحياة خلت

أتت تطلب الثأر؟

روح على الأفق هائمة أرهقتها جريمتها

أقبلت تنشد الصفح والمغفرة؟

رسول من الغيب يحمل لي دعوة غامضة

ومهراً لأجل الرحيل؟

هل كان محمود البريكان يحدس في هذه القصيدة، قاتله، موته؟ تلك الدعوة الغامضة للرحيل.

حسناً لنذهب الآن إلى جهة أخرى، حيث هواجس الرعب والخوف والشك تطارد رجلاً في غرفة مغلقة، انها موضوعة كافكوية بامتياز، في عمل قصير للكاتب الألماني روبرت فالزر، يصف رجلاً يغلق على نفسه باب الغرفة، ولكن لأن الرجل تنتابه حالات شك وريبة ذات طابع مرضي، يصبح الباب مركز أوهام وشكوك جنونية. لا يتوقف الرجل عند هذا الحد، فيذهب ليتشمم الباب للتأكد من أنه مغلق. وعندما لا يقتنع يذهب إلى أبعد من ذلك، فيحدق نحو الباب ويخاطبه «أيها الباب أخبرني هل أنت مغلق؟. لكن الباب لم يجب، على أية حال لم يكن من الضروري أن يجيب، مم كان يخاف الرجل؟ لا أحد يعرف. كلّ ما نعرفه أن الرجل تركبه شكوك لا حصر لها حيال الباب.

لكن كيف يبدو باب الموت؟ تتحدث مسرحية «الباب» ليوسف الصائغ، عن مدينة يحكمها قانون عجيب، إذ يتم بموجبه دفن الأموات والأحياء معاً. ذات يوم يزور المدينة رجل غريب ويتزوج من امرأة في المدينة، وما ان تموت زوجته حتى يسري قانون المدينة عليه، حيث يتم دفنه مع زوجته. وعندما يحتج الغريب على هذا القانون يتم التحايل عليه ليدفن مؤقتاً مع قليل من الشموع والطعام، ثم يتم إخراجه في ما بعد. في القبر تبدأ التداعيات المرّة لبطل المسرحية، وفي حوار قاس مع الذات، وفي محاولات متكررة يطرق البطل باب القبر بقوة ويصرخ بأعلى صوته، لكن كل محاولاته تفشل، هكذا يظل باب الموت مغلقاً إلى الأبد.

هل تنفتح الأبواب على تيه؟ أزعم أن نعم. في قصة بورخيس (ملكان ومتاهتان) إشارة إلى هذا القول. في حرب ما يتم أسر ملك عربي فيوضع في متاهة عظيمة وبأبواب لا تنفتح أبدا، لكن بقدرة إلهية - وليس بخيط أريان- يهرب الملك العربي ليجهز جيشاً قوياً، ويهاجم غريمه. يؤخذ هذه المرة الملك الإفرنجي أسيراً. يأخذه الملك العربي إلى الصحراء ويطلقه هناك قائلاً له: لا أبواب هنا ولا نوافذ.

هكذا يبدو باب الصحراء، انه باب للدخول فحسب لكن العودة منه مستحيلة.

ترى أليس من المناسب أن نعود قليلاً لنستمع إلى صوت فيروز وهي تغني قصيدة «لبواب»!