تترقب الشعوب العربية المقهورة ما يحدث لأم الدنيا «بشوق واحتراق في انتظار الموعد» ولسان حالها يردد مع أم كلثوم «أنت يا قبلة روحي وانطلاقي وشجوني... أغداً تشرق أضواؤك في ليل عيوني... آه من فرحة أحلامي ومن خوف ظنوني... أنا أحيا لغد آن بأحلام اللقاء»... وكم طال صبر الشعوب التي صمتت وخنعت دهراً، ها هي تنتفض لغدها و»ترجوه اقتراباً»... ها هي الشعوب تبعث للحياة من جديد وتنهض من وسط الحطام والركام والظلام... هكذا هم أحفاد رفاعة الطهطاوي ومحمد عبده وقاسم أمين وطه حسين مهما طال بهم الزمن لابد أن يستيقظوا من سباتهم ويبدأوا من جديد... فقد نهضت مصر بعد ظلام العصر العثماني حين أسس الطهطاوي لنهضة فكرية في مفهوم الوطن والمواطنة، لتتكالب السهام على مصر مرة أخرى بعد فشل الثورة العرابية واحتلال إنكلترا لمصر في 1882، وتدخل مصر عصراً ظلامياً آخر وصلت فيه نسبة الأمية إلى 91 في المئة، لينتفض رواد النهضة من جديد من أجل التحرير الاجتماعي ويحققوا فكرة قاسم أمين في إنشاء أول جامعة أهلية في 1908 من خلال تبرعات الشعب، ليؤتى ثمار هذا الجهد الطويل حين انتصر الجيل الجديد لقيم الحرية في ثورة 1919، متَّحدين تحت شعار سعد زغلول «الدين لله والوطن للجميع». لقد فشل الاحتلال ونجحت الثورة حين توحد الشعب بكل أديانه وألوانه تحت هذا الشعار، فخطب القساوسة من فوق المنابر وخطب شيوخ الأزهر في الكنائس، ليستعيدوا الدستور مرة أخرى. ولكن لم يكتمل مشروع مصر النهضوي بسبب الانقلاب العسكري في 1952، ذلك الانقلاب الذي همّش المثقفين وزج بالمعارضين في غياهب السجون، فغاب العقل وتأدلج المجتمع وغزته ثقافة الطاعة والخنوع والخضوع حتى وصل اليوم إلى قاع الحضيض، حين نخر الفساد جسده وأهدرت طاقاته وإبداعاته وامتهنت فيه كرامة الإنسان وضاعت حرياته وحقوقه وغرق في عشوائياته.ثورة اليوم ليست كثورة الأمس التي قبعت مصر تحت حكمها العسكري ثلاثين سنة، ثلاثين سنة تمرست بها الحكومات العربية واحترفت التضليل والكذب وتخدير شعوبها بخديعة الديمقراطية التي لا مكان فيها لتبادل السلطة، حتى تحولت البلاد إلى سجون كبيرة تحرسها الأجهزة البوليسية التي سهرت على ترهيب الناس. لم تعد الشعوب اليوم تصدق أكاذيب ووعود أهل الكهف بالإصلاحات والتغيير التي تعودوا على ترديدها منذ الثمانينيات... اليوم فقط يقولون إنهم فهموا ووعوا بعد أن هرموا وشاخوا، بعد أن أدركوا خطورة غضبة شبابها الذين ردوا على دعواتها «لسه فاكر قلبي يدي لك أمان، ولا فاكر كلمه ح تعيد اللي كان، لسه فاكر كان زمان».
توشك اليوم هذه المرحلة على الانصراف والرحيل إلى غير رجعة ولسان حال شبابها يردد «أنا لن أعود إليك... فإذا دعوت اليوم قلبي للتصافي... لن يلبي»، فثورة اليوم هي ثورة الحرية والمواطنة وحقوق الإنسان... هي ثورة العصر الجديد، ثورة سقط فيها جدار الخوف الذي أعاق كل تغيير حقيقي... ها هو الجيل الجديد يسقطه هاتفاً «مصر يمّه يا بهية، يام طرحة وجلابية، الزمن شاب وانت شابة، هو رايح وانتي جاية»، ها هو ضميره الحي يهب لإنقاذها بعد أن صمّت آذان النظام الهزيل عن سماع صيحاتها وعذاباتها، واليوم تقول له: «ياللى كان يشجيك أنيني كل ما أشكي لك أسايا». ولكن «يا خوف فؤادي من غد»... فهل ستنجح إرهاصات تلك الثورة في تحقيق الخطوة الأولى التي خطتها الشعوب المتقدمة نحو الحداثة وهو شعار سعد زغلول «الدين لله والوطن للجميع»؟ هل ستتحرر الشعوب من الاستبداد الذي كان «أصل كل فساد، فلعب بالدين فأفسده، وغالب المجد فأفسده، وأقام مكانه التمجد» كما قال الكواكبي... هل سيسقط عصر «بالروح... بالدم»؟ عصر الرأي الواحد والدين الواحد والحزب الواحد، وهل سيولد فجر جديد وشمس جديدة كما وعدت فيروز «مصر عادت شمسك الذهب، تحمل الأرض وتغترب».. أم سنظل نلوك مقولة سعد زغلول الشهيرة «شدي اللحاف يا صفية... مفيش فايدة»؟
مقالات
مصر عادت شمسك الذهب
04-02-2011