محاذير
كتابنا في حقل الأدب لا يملكون محاذير تجاه ما يرد من الغرب. يغفلون أن الكاتب الغربي هو وليد موروث ثقافي ضخم، بدأ مع عصر النهضة، ولم تخمد ناره حتى اللحظة. وهذا الموروث ينطوي على خصائص زمانية ومكانية فريدة في نوعها، وجدْ خاصة. منها ما هو وليد تطلع عبقري لأفق بالغ الغنى، وافر النفع. ومنها ما هو وليد احتقان ومأزق (اجتماعي، اقتصادي، سياسي...)، ولا شأن له بفورة دم المبدعين. ومحاكاة هذا الموروث البعيد بعين مغلقة جريمة بحق النفس أولاً. وبحق الأجيال التي تتوارث الوهم.
خطرت لي عيّنةٌ من مفاسد النزعات المتطرفة، التي هي وليدة ذلك الاحتقان والمأزق الغربيين. والغريب، لعلة لا مجال هنا لإيضاحها، أن هذه المفاسد لم تطلع إلى الناس في الغرب إلا من أماكن محددة، قد لا تتجاوز الكيلومترات المربعة. باريس مثلاً، أو حيّها اللاتيني بوجه الخصوص، وبعض الجامعات الأميركية.العيّنةُ هي الرغبة «العدمية» في إماتة ثمار الإرث الإنساني، وقلعها من الجذور. نحن نقرأ عن التيارات «العدمية» التي عصفت بالروح الأوربية على أثر مآزقها التاريخية، والتي تقف وراء دعوى «موت الرواية»، منذ ثلاثينيات القرن العشرين (رأي للفيلسوف الأميركي «روبرت بِبِّن»).الإرث الروائي الذي احتفى به قراء القرون المتأخرة، واجه مواقف نقدية بشأن بنائها التقليدي الموروث. ولكن كتاب الصرعات سرعان ما انتفعوا من هذه المواقف النقدية، فلم يجدوا أيسر من إعلان «موت الرواية»، والرواية متواصلة بهمة حتى هذه اللحظة (الفيلسوف الاسباني جوزيه أورتيغا كاسيت أول من عرض للفكرة). النص الأدبي ذو طيات. كل قارئ يكشف عن طية قد لا يلتفت إليها قارئ آخر. أمر يعرفه القدامى والمحدثون. ولكن الفرنسي رولان بارت جاء إلى هذه الفكرة من زاوية أملتها الصرعة الخيالية، فقال «إن على القارئ أن يفصل النص عن كاتبه من أجل أن يحرر النص من الطغيان التأويلي»، و»إن «أصل» المعنى كامن بصورة حصرية في اللغة ذاتها، وفي «الانطباعات التي تخلفها لدى القارئ». لا شأن للمؤلف بذلك. ولذلك شاء أن يعلن «موت المؤلف». إعلان طاش به النقاد العرب بمسرة من اكتشف نفسه.على أثر معسكرات الاعتقال النازية، والمذابح اليهودية المريعة، شاء الكاتب ثيودور أدورنو، وهو فيلسوف مُغلق على القارئ بصورة استدعت شكوى كثيرين من النقاد الغربيين، شاء أن يُلقي على الناس بإعلانه عن «موت الشعر». هذا الاعلان ضمنه في مقولة ذهبت كالنار في الهشيم، وسط نقاد الصرعات، قال فيها: «إن كتابة الشعر بعد «أشفتز» (أكبر معسكرات الاعتقال النازية) عمل همجي».وعلى منواله، وفي مرحلته، قفز موسيقيٌّ ومنظّرٌ فرنسي شهير يُدعى «بوليز» إلى الواجهة ليعلن من جانبه عن «موت الأوبرا». وعلى الطريقة الفرنسية وضع إعلانه في جملة قمعية: «إن أروع طريقة لحل مشكلة الأوبرا هو في تفجير دور الأوبرا جميعاً». ولم يتورع ناقد انكليزي بارز هو تيري إيغلتن في محاضرة أخيرة من إعلان «موت النقد». ولعله لا يعرف أن ناقداً عربياً سبقه بسنوات للإعلان عن «موت النقد» العربي، هو الاستاذ الغذامي.ما الذي تبقى من أعمدة الموروث الإنساني لم تطلها يد المتمرد الطليعي؟ نعم «المتاحف». متاحف التاريخ، والطبيعة، والعلم، والفن...الخ. في كتاب أقرأه بين يدي الآن عن الفرنسي «أبولينير: شاعر بين رسامين» أقع على الجملة التالية: «... أبولينير الذي يتفق مع المستقبلي مارينيتي، في واحدة من أماسيهم الشعرية، بأن «على كل المتاحف في العالم أن تُهدم لأنها تُصيب المخيلة بالشلل».أعتقد أن مجددي الغرب الطليعيين أجهزوا بأحلامهم على كل الإرث الإبداعي الإنساني. ولك أن تتخيل، كساع إلى البيداء، عالماً «نظيفاً» تماماً من الرواية، الشعر، المؤلف، الأوبرا، والمتحف. تعيشه عارياً داخل بهو الرطانة اللغوية التي لا تفهم منها شيئاً، ووجهاً لوجه مع العُصاب «البكوري» اللاهث وراء الموضة الجديدة، المدهشة، المفاجئة، والسريعة الزوال! ولك أن تتخيل أن هذا البهو عربيٌّ، تطفو فيه الرطانةُ والعصاب على سطح حياة غاية في الفقر والجدب وغياب المعنى!