الكاتب الروائي الكبير «جوزيه ساراماجو» الذي توفي الشهر الماضي، والذي حصد جوائز عديدة لعل أهمها جائزة نوبل، وجائزة العلم الدولي، وكاموس البرتغالية، ترك للإنسانية أعمالاً خالدة، ومنها 20 رواية، أهمها ذكريات الدير، سنة موت ريكاردوس، الطوف الحجري، انجيل المسيح، كل الأسماء، الآخر مثلي.

Ad

كاتب مثله لا يمكن أن يُحصر في صفة الروائي فقط، فهو أكبر بكثير من ذلك، لأنه مناضل وفيلسوف، ومفكر، وباحث، ومنظر، لذا نجد كتاباته الروائية هي مجموع كل تلك الشخصيات معاً، فحين نقرؤها نكتشف أنها ليس حكايات عن أشخاص أو زمان أو مكان معين، وهو الشكل الذي تتطلبه الرواية، لكنها أكبر من ذلك كله وأكثر تعقيداً، فهي تعكس فكره وفلسفته تجاه كل الأمور الحياتية الإنسانية، ونضاله السياسي المستمر ضد كل المظالم والأخطاء التي تحيق بالإنسان في كل مكان، ومنها تضامنه مع الشعب الفلسطيني، وإيمانه بقضيته النبيلة ضد إسرائيل التي دعته لزيارتها وتحدث ضدها.

وفي كل رواية له هناك فكر نضالي تجاه قضية ما، ورؤية فلسفية، وتأمل تحليلي مصبوب في قالب روائي، وهذا ما وجدته أيضاً في رواية «الطوف الحجري» التي قرأتها منذ وقت قريب، كما قرأت له سابقاً روايات: العمى، وسنة موت ريكاردوس، وكل الأسماء، وكلها روايات عظيمة بحق، وصعبة في الوقت ذاته.

لكني وجدت رواية «الطوف الحجري» مختلفة في أسلوبها عما قرأته من رواياته، فالرواية قائمة على فرضيات غير واقعية مثل حكايات ألف ليلة وليلة المبنية على خيالات غير قابلة للحدوث، ونحن نصدقها على هذا الأساس المتخيل، لكن في هذه الرواية ينتظر القارئ حلاً أو نتائج لهذه الفرضيات المتخيلة، لأن الكاتب أوهم القارئ منذ البداية بأن هناك نتائج لهذه الفرضيات، فهو يبدأ بفرضية متخيلة وهي انفصال شبه الجزيرة الأيبيرية إسبانيا والبرتغال عن أوروبا بتصدع جبال البرانس، وانفصال هذه الكتلة الحجرية وإبحارها كطوف في المحيط الأطلنطي، وما يترتب عليه من أحداث تحصل وتتكرر في كل أزمان الكوارث.

ومن ثمة يتابع فرضياته حين تنطلق كلاب القرية في النباح، ترسم امرأة برتغالية خطاً على الأرض بفرع من شجرة دردار لا يزول بأي شكل كان، وفي ذات الوقت يرمي موظف برتغالي حجراً في المحيط يطير أكثر من قوته، وتفك امرأة جيليقية خيوط جورب صوفي أزرق يتحول إلى تل من خيوط لا تنتهي، وكذلك يشعر صيدلي إسباني باهتزاز الأرض تحت قدميه، وأيضاً نجد معلم مدرسة برتغالياً تتبعه الآلاف من الزرازير أينما ذهب.

ثلاثة رجال وامرأتان تشتبك أفعالهم بهذا التصدع الذي أدى إلى انفصال شبه الجزيرة الأيبيرية، ولإحساسهم بالمسؤولية تجاه ما حدث، ولرغبتهم في معرفة السبب يذهبون في رحلة طويلة في اتجاه الصدع.

ويكتشف القارئ في النهاية أن الكاتب لم يستطع أن يكشف سر هذه الأحداث وهذه الفرضيات الغريبة التي بنى عليها روايته، والتي قاد فيها أبطاله والقارئ معهم من أول الرواية إلى آخرها في رحلة البحث عن سر هذا التصدع وما حصل لهم من قوى خارقة، بالإضافة إلى حمل جميع نساء شبه الجزيرة في وقت واحد في اللحظة ذاتها.

ففرضيات الكاتب لا يمكن تبريرها، لأنها بنيت على خيال غير قابل للتحقق. هذه الرواية هي عمل بحثي كبير في معلومات لمجالات متعددة، جغرافية، فضائية، علوم البحار، وحركة الرياح، والسلوك الإنساني الاجتماعي في كل مظاهره، كلها كتبت بلغة ماكرة مراوغة تؤكد الأحداث وتنفيها في ذات الوقت، أو تمنحها تأويلات عديدة، مما منح الحكاية التي لا تصدق قابلية التصديق، وهذه هي مهارة وعبقرية مؤلفها الذي استطاع أن يخلق منها عالماً منطقياً، حتى وإن لم يستطع أن يجد مبررات لفرضيات لا يمكن أن تبرر.