أقامت صحيفة "الاتحاد" الإماراتية منتداها السنوي الخامس في الفترة من 20 -21 أكتوبر 2010 في أبوظبي، ودعت إليه كتابها المشاركين في صفحة "وجهات نظر" للالتقاء والحوار حول موضوع "العرب ودول الجوار"، وهو موضوع الملتقى الخامس في سلسلة الملتقيات التي بدأتها عام 2006, فاستهلت الملتقى الأول, بموضوع "البرنامج النووي الإيراني" تلاه "تحديات الثقافة العربية في عصر العولمة"، ثم "الدين والمجتمع في العالم العربي" و"الصحافة العربية الواقع والطموح" وتكاد صحيفة "الاتحاد" تكون الوحيدة بين الصحف العربية التي تحرص على هذا التقليد الحضاري الثري.

Ad

الموضوع المطروح للنقاش في الملتقى الخامس يقارب ويتزامن مع موضوع "رابطة دول الجوار العربي" الذي طرحه الأمين العام للجامعة في قمة "سرت" الاستثنائية وتحفظت عليه العديد من الدول العربية، وعلى رأسها السعودية التي قالت على لسان وزير خارجيتها "إن مقترح سياسة الجوار لن يحقق غايته إلا بعد أن نوفر لها متطلبات نجاحها والتي من أهمها: معالجة المعوقات والإشكاليات التي تعترض قيام نظام عربي فاعل وقادر على التعامل مع دول الجوار ككتله متجانسة وموحدة".

توزعت محاور المنتدى على 6 ورقات "مواضيع" هي: العرب وإيران, والعلاقات العربية التركية, ومحور إفريقيا, والعرب وأميركا, وإسرائيل, ودول الجوار وآفاق المستقبل, وخصصت لكل ورقة جلسة ومعقبات ونقاش حر في إطار من الشفافية واحترام وجهات النظر الأخرى مهما كانت مخالفة. وكان من حظي أن أدير الجلسة الثانية المخصصة للعلاقات العربية التركية, ورقة الدكتور وحيد عبدالمجيد و كان معي على المنصة معقبان قديران: د. أحمد عبدالملك ود. علي راشد النعيمي أثريا الورقة بتعقيبيهما, ورقة د. وحيد, تحليلية رائعة, تسلط الأضواء على الدور التركي في المنطقة وترصد إرهاصاته وملامحه الأولية وتفتح آفاق الإفادة من الدور التركي لمصلحة التنمية العربية وتتلمس سبل التعاون مع تركيا لتحقيق المنفعة المتبادلة: سياسياً واقتصادياً, ويهمني إبراز أهم النقاط في ورقة د. وحيد لفائدة القارئ العربي نظراً لأهمية تحليلاته فهو من أصدق المحللين العرب, وأنا من الحريصين على كتاباته وقد كانت مقالاته المبكرة في العديد من القضايا الكبرى كالعلاقة مع الغرب والموقف من العولمة وسبل الإصلاح, موجهات مؤثرة في تفكيري ومواقفي وكتاباتي.

يرصد "وحيد" إرهاصات عودة تركيا إلى تاريخها وتراثها, عشية غزو العراق 2003 حين رفضت السماح للقوات الأميركية بدخول شمال العراق عبر أراضيها, ويرجع فلسفة التحول التركي نحو الغرب إلى كتاب "العمق الاستراتيجي" الذي أصدره أحمد داود أوغلو 2001، إذ أعطى "أوغلو" اهتماماً خاصاً للعمق العربي في السياسة الخارجية، مؤكداً إعادة تأسيس العلاقات التركية العربية كضرورة على مستوى المصالح المتبادلة وعلى مستوى السلم الإقليمي في المنطقة.

وفي رأي المحاضر: "أن المسألة الجوهرية في السياسة التركية الجديدة هي: أن الاقتصاد هو محركها الأول بينما تأتي السياسة في المرتبة الثانية", كما يلاحظ في المشروع التركي الإقليمي أنه مشروع تدريجي يبدأ بالأقرب فالأقرب، إذ بدأ بالتركيز في مساحة صغيرة في الشرق الأوسط "مشروع سورية الكبرى والمؤلفة من سورية ولبنان والأردن والعراق, منطقة الهلال الخصيب"، وقد نجحت تركيا على صعيد تحرير التجارة وإلغاء التأشيرات باتجاه سوق مشتركة صغيرة تتوسع تدريجياً لتشمل دولاً أخرى "بحيث تصبح منظومة الشينغين الصغيرة التي قامت بين الدول الأربع أوسع نطاقاً"، ويعد هذا الإنجاز أنه "الاختراق الكبير الذي يصنع المستقبل فعلاً"، ويشير إلى "المجلس الاستراتيجي المشترك" التركي السوري، ويعدد مجالات التعاون الاقتصادي المتزايدة بين البلدين, أما عن علاقات تركيا ببقية الدول العربية, يرى: "أن مصر والسعودية وبقية دول التعاون الخيجية تأتي في المرتبة التالية على صعيد أولويات السياسة التركية الراهنة"، ويلاحظ وحيد أن تركيا لم تلمس لدى مصر الاستعداد الذي وجدته في سورية بسبب أن القاهرة كانت قلقة في الفترة الماضية من علاقات اقتصادية بين شركات مملوكة للإخوان وأخرى تابعة لأعضاء في حزب العدالة والتنمية، ويرى أن القاهرة أفلتت منها فرصة التعاون مع تركيا لإعادة تشكيل خريطة المنطقة بعد الغزو الأميركي للعراق.

أما بالنسبة لمجلس التعاون، فإن حجم العلاقات الاقتصادية بين تركيا ودول المجلس لا تنسجم مع حجم تجارتها الدولية، لكن هناك مذكرة تفاهم مشترك وقعت 2008 بشأن إجراء حوار منتظم وعقد اجتماع سنوي لوزراء خارجية الدول السبع تمهيداً لإقامة مشاريع للتعاون الاقتصادي, يتساءل وحيد: لماذا كان على تركيا أن تراجع سياستها الخارجية؟ هل لأن حزباً ذا خلفية إسلامية اعتلى السلطة؟ يرفض وحيد هذا التصور ويرى أن تفاعلات جديدة كانت تحدث في المنطقة بحيث أصبح مستحيلاً المحافظة على الأوضاع القائمة فيها بعد أن زلزلت الهمجية الأميركية هذه الأوضاع سعياً لتغييرها لبناء "شرق أوسط كبير"، ويرى وحيد أن هذه الهمجية فشلت لكن لم يكن ممكناً أن تبقى تركيا في موقف المراقب في الوقت الذي تهب فيه رياح تغيير إقليمية, وأخيراً يرى وحيد أن تركيا عادت إلى المنطقة وتاريخها, لكن من أجل مستقبلها لا من أجل إعادة "السلطنة العثمانية"، كما يتوهم البعض.

ويبقى أن نقول إن الورقة أثارت جدلاً واسعاً لكنه كان مثمراً, الموضوع التركي, موضوع محبب كما أن الغزو التركي للمنطقة سواء عبر الفن والمسلسلات الدارمية أو التعاون التجاري أو السياحي, غزو يجد ترحيباً واسعاً في المنطقة بخلاف الغزو الإيراني, بسبب أن الغزو التركي يأتي البيوت من أبوابها بينما الغزو الإيراني يأتي البيوت من ظهورها متخفياً تحت مزاعم كبرى لا يصدقها إلا السذج والمفتونون بالشعارات والمستفيدون من المال الإيراني "الطاهر".

ويجدر قبل أن أختم المقال أن أقول ملاحظاتي على الورقة وهي ملاحظات أو توضيحات لم أستطع أن أقولها وأنا على المنصة, كون مدير الجلسة ينبغي أن يكون محايداً, أبرزها تتعلق بما ذكره وحيد من أن إرهاصات العودة التركية تبدأ برفض تركيا عبور القوات الأميركية لأراضيها للهجوم على العراق 2003، وهذا ما اغتر به أيضاً د. عمرو الشوبكي في بحثه "الإسلامية التركية من الرفاه إلى العدالة والتنمية"، وهو بحث ممتاز نشر في الكتاب الرابع والثلاثين لمركز المسبار للدراسات والبحوث, اكتوبر 2009 دبي, إذ أرجع هذا الرفض إلى أنه "تعبير عن الترجمة الديمقراطية والعصرية لموقف ربما إيديولوجي أو عقيدي رافض لضرب جار مسلم"، وهو ما دعا الشيخ القرضاوي من فوق منبر الجمعة أن يصرخ قائلاً: "حيا الله الأتراك, خاسري المليارات بينما العرب يقدمون التسهيلات مجاناً- يقصد تسهيلات دول الخليج للقوات الأميركية غزو العراق".

بل إن الكاتب الليبرالي خالد الحروب- أيضاً- انخدع بالموقع التركي فكتب يقول: "لقد رفض البرلمان التركي فتح أراضيه أمام القوات الأميركية, واستطاعت تركيا- رغم علاقاتها القوية بأميركا وحاجتها الشديدة إليها- الاحتماء بالإدارة الشعبية لرفض الطلب الأميركي"، ويتوصل الكاتب إلى الدرس المستفاد فيقول: "وفي ذلك درس ديمقراطي لأنظمة العالم الثالث يعصمهم أمام الضغوط الخارجية"، أما فهمي هويدي فقد قارن الموقف التركي بالموقف الكويتي الذي سمح باستخدام أراضيه للدخول منها للعراق وقال: "ما كان للحكومة التركية أن تقف ذلك الموقف إلا لأنها منتخبة من الجماهير ومن ثم استندت في شرعيتها إلى الإدارة الشعبية".

وملاحظتي على ورقة وحيد في هذه النقطة بالذات وعلى المواقف المخدوعة بالرفض التركي هي: أن الرفض التركي لعبور القوات الأميركية عبر أراضيها لغزو العراق لا علاقة له بالديمقراطية والإرادة الشعبية ولا بدروسها, والقضية في حقيقتها كما اتضحت فيما بعد, أن تركيا اختلفت مع أميركا على  الثمن, فرفض الأميركيون المساومة, فتركيا لها أطماع وأحلام تاريخية في الموصل وكركوك الغنيتين بالنفط في الشمال كما أرادت أن تشارك بقواتها في الغزو ولم تكن أميركا في وضع يسمح لها بالمساومة لأن ذلك سيربك حساباتها مع الأكراد وسيفتح أمامها جبهة جديدة فرفضت هذا الثمن, ومما يؤكد أن القضية قضية خلاف على الثمن أن نفس البرلمان التركي وافق بعد أيام وبأغلبية النواب على فتح الأجواء التركية أمام الطائرات البريطانية والأميركية التي دكت العراق دكاً، فهل كان ذلك- أيضا- استناداً إلى الإرادة الجماهيرية أم لأن الثمن في الحالة الثانية كان مقبولاً؟!

* كاتب قطري