منذ فترة أطلعني صديق قديم على مشروع له يتعلق بتدوير النفايات بتقنية حديثة، جلب فكرته من إحدى شركات الدول الإسكندنافية التي لا أذكرها تحديداً، الصديق أخبرني أنه صرف النظر عن المشروع رغم أنه نجح في إقناع الشركة الأجنبية بمشاركته واستثمار مبلغ في البلد من أجل إتمامه، والسبب يعود إلى عدم إمكانية توفير الأرض بسعر مناسب أو الحصول على أرض حكومية لإقامة المشروع عليها، وفي خضم شرحه لفكرته التي تتواءم مع تخصصه المهني، عرض علي قائمة طويلة من الهيئة العامة للصناعة لمشاريع تنتظر تخصيص الأراضي لإتمامها، وبعضها لمستثمرين أجانب سيحولون مبالغ إلى البلد ويفتحون مكاتب تمثيل لهم في الكويت، ستساهم في انتعاش وتنوع الاقتصاد الوطني بشكل عام.

Ad

وبعد أن استمعت إليه، تساءلت: لماذا يجد من لديهم مشاريع صناعية وخدماتية جدية صعوبات في إيجاد الأراضي والدعم لإنجازها؟... بينما نستيقظ كل صباح على مشروع «مول» تجاري جديد، حتى أصبحت الكويت أرض «المولات» المستنسخة، وهي أتفه أنواع المشاريع التي لا تضيف أي قيمة إلى اقتصادنا الوطني، وتزيد نزعة استهلاك الكماليات وتأجيج القيم السلبية في المجتمع المتمثلة في الركض وراء الموضة والماركات والأكلات السريعة، وضياع عادة التوفير لدى جيل بأكمله أصبح محاصراً بعادات التفاخر بالمقتنيات الكمالية، فضلاً عن زيادة العمالة الهامشية من شرق آسيا لخدمة هذه المجمعات التجارية الضخمة، التي يحصل مستثمروها على عوائد هائلة دون تقديم أي ضريبة إلى الدولة سوى الإيجار الرمزي للمتر المربع للحكومة، الذي يقومون لاحقاً بتأجيره تجارياً بعشرات أضعاف ما يسددونه للدولة.

والمؤسف أنهم جعلوا هذا الاستثمار التافه أو «المولات» رمزاً للبلد، فعندما يزور رئيس دولة أو ضيف رسمي البلاد يأخذونه في جولة في أحد المولات الشهيرة، ليطلع على الماركات الأوروبية والأميركية!!... وكأن مصانع «كريستيان ديور» انطلقت من دوار «البركة» في شرق... و»ستاربكس» كانت أول فروعه بالسوق الداخلي بجانب قهوة بوناشي، وأول تفتيحة لملابس «فيكتوريا سكريت» في بسطة أم فرج في سوق الحريم!

فعلاً إنه لأمر محزن ومخجل ألا تجد دولة بعد خمسين عاماً من استقلالها متحفاً أو مسرحاً أو مصنعاً أو أي معلم حضاري ثقافي يجول فيه زعماء وضيوف الدولة الزائرون، وأصبح معلمها رموز الاستهلاك والماركات لنثبت للعالم أننا عالة عليه نبيعهم مصادر الطاقة التي نستخرجها بتكنولوجيتهم وآلياتهم، ليصنعوا وينتجوا هم ونستهلك نحن الكماليات التي نتفاخر بامتلاكها في «مولاتنا» المتفشية كالسرطان للتسكع والتبذير... فماذا سيكتب ضيوف الدولة في دفتر ملاحظاتهم أو مذكراتهم عن انطباعاتهم بعد أن يجولوا بين محلات الماركات والمطاعم الآتية من دولهم سوى عبارات التندر والسخرية من دولة تجني المليارات، ولم تستطع أن تخلق حضارة ونهضة ثقافية وعلمية وصناعية، ولم تنجح إلا في نقل قشرة مظاهر الحضارة العالمية الاستهلاكية دون مضمونها، التي يستغلها المتنفذون لخلق الثروات الشخصية، ومن بين تبريرات ذلك السلوك المقولة الخالدة لزميلنا الأستاذ حسن العيسى «... لا مكان للحديث عن الواجب الأخلاقي والوطني تحت مظلتي الرأسمالية والعولمة»، التي لا أتفق معه فيها لأنه عندما تسدد الشركات الأميركية والأوروبية والآسيوية الضرائب لدولها فإنها تلبي واجباً وطنياً... وعندما يتبرع بيل غيتس ووارن بافيت بثرواتهما الطائلة للأعمال الخيرية والمعاقين فإنهما يلبيان الواجب الإنساني والأخلاقي لمجتمعيهما والإنسانية كلها.