- 1 -

Ad

استمعت وقرأت خلال الأيام الماضية كثيراً من التحليلات السياسية عما جرى ويجري الآن في مصر، ومعظمها يحمل علامة استفهام، يسبقها سؤال واحد يقول: لقد عرفنا الشعب المصري شعباً وديعاً ورقيقاً، فكيف انقلب هذا الشعب بين عشية وضحاها، إلى شعب مقاتل، وصلب، وعنيد... إلخ؟

وأظن أن السؤال والغرابة التي يخفيها بين طياته ليسا في محلهما، فهل نسي هؤلاء المعلقون والمحللون الحروب الطويلة، التي خاضها هذا الشعب طوال تاريخه الطويل، منذ عهد الفراعنة حتى الآن؟ وهل نسي هؤلاء المعلقون والمحللون، مقاومة الشعب المصري للحملة الفرنسية عام 1798، وكذلك مقاومته للاحتلال البريطاني منذ 1982، حتى 1956، ونضاله من أجل تحرير المرأة، ومحاربة الإقطاع والاستغلال؟ ولكن هل يعني كل ذلك، ويفسر هذا العنف وهذا الحقد، الذي نراه يمارس الآن في الشارع المصري من أقاصي جنوب الصعيد حتى أعالي شمال الدلتا؟

- 2 -

لقد واجه الشعب المصري عهوداً طويلة من الفساد والظلم والطغيان، بدءاً من عام 1881، وقبل قيام ثورة عرابي ضد الخديوي توفيق، الذي كان مدعوماً من الدولة العثمانية التي كانت تمثل المظلة الشرعية لحكمه، كما كان يحظى بدعم أكبر دولتين أجنبيتين في العالم هما بريطانيا وفرنسا، اللتان كانتا ضد عرابي، وثورته، وإلى جانب الخديوي، ومفاسده. وقد أصيب الشعب المصري في ذلك العهد بخيبة أمل كبيرة، ودفن هذه الخيبة في داخله، حيث توراثها الآباء والأبناء عن الأجداد، ثم توالى الفساد بعد ذلك، وتوالى الظلم والاستعباد، وسيطر الإقطاع والرأسمالية على المقدرات المصرية، وتحالف القصر الملكي في عهد كل من الملك فؤاد والملك فاروق، وبعض رجال الدين مع القصر الملكي، واصطفوا جميعاً خلف الإقطاعيين والطبقة الأرستقراطية التركية والغربية، ضد المصريين البسطاء من الفلاحين، والعمال، والطبقات الفقيرة.

- 3 -

وعندما قامت الثورة المصرية عام 1952 ، لم تستطع تحرير الشعب المصري كله من الفساد، والاستبداد، والاستغلال. تحرر قسم كبير من الفلاحين من ظلم الإقطاع وجشعه بفضل قوانين الإصلاح الزراعي، وتحرر قسم من العمال من جشع الرأسمالية، بفضل ضرورة تخصيص- مع الفلاحين- نسبة 50% من مقاعد مجلس الشعب لهم، ضماناً لتصويتهم مستقبلاً إلى جانب قرارات وقوانين الحكومة، ولكن وقع ظلم كبير على المثقفين المصريين عامة من اليمين واليسار والوسط، ولم ينجُ مثقف مصري من الملاحقة والمطاردة والسجن، إلا من احتمى بأهل الدار، والتزم الصمت التام.

فكان عهدا عبدالناصر والسادات عهدين دكتاتوريين، بوجوه جديدة وقفازات جديدة، وكتم الشعب المصري طيلة العهود الملكية والجمهورية في داخله مشاعر الغضب، والحقد، والثورة على هذه العهود.

وجاء عهد مبارك الذي امتد حتى الآن حوالي ثلاثين عاماً، عانى خلالها الشعب المصري الفقر، والفاقة، وقلة فرص العمل، وفساد الرأسمالية، وفساد الحكام، القدر الكثير والمرير. ولكن الشعب المصري– والحق يقال– لم يتكلم، ويكتب، ويقرأ، ويسمع، عبر كل وسائل الإعلام المتاحة، كما تكلّم، وكتب، وقرأ، وسمع في عهد مبارك. وبصراحة، فإن الكثير من الشائعات والأخبار، التي كانت تنشرها صحافة المعارضة، وتبثها أحزاب المعارضة في ندواتها ومحاضراتها، لم تكن كلها صحيحة وسليمة، وكان فيها من الحقد والضغينة الشيء الكثير، وهي عيوب وأحقاد لم تكن تخلو منها معارضة ما، في دولة ما، في شعب ما، في تاريخ ما. ولكن امتياز المصريين بالمعارضة والسخرية من كل حاكم ومسؤول، لم يستثنِ عهد مبارك من ذلك.

- 4 -

كان من المؤمل، أن تنشأ في عهد مبارك أحزاب قوية ذات زعامات سياسية قوية، وبرامج سياسية واضحة وواقعية وقابلة للبحث والتطبيق والحوار مع الدولة، ولكن كل ذلك لم يتم، ولفت نظري قول حسنين هيكل في الأمس في تعليقه على ما يجري في مصر في جريدة «الشروق» (3/2/2011) معلقاً على هزال الحياة السياسية المصرية وهشاشة الأحزاب السياسية المصرية:

«إن الموقف كان يحتاج إلى قوى سياسية ناضجة، تستطيع أن تمد جسراً يملأ الفراغ بين الشرعية والسلطة، لكن القوى السياسية لا تبدو قادرة، ولعله كان من المبالغة انتظار دور فاعل منها. فالأحزاب السياسية في مصر ذبلت من زمان طويل، ولو كانت هذه الأحزاب قادرة، لما كانت هناك حاجة إلى ثورة 23 يوليو أساساً، فقد عجزت هذه الأحزاب لأسباب يطول شرحها عن إزاحة الاحتلال البريطاني، كما عجزت عن وقف الفساد الملكي، والحقيقة أن أكبر هذه الأحزاب وأجدرها بأن يُسمى حزباً، أضاع قوته في معاهدة سنة 1936، وأضاع شرعيته يوم 4 فبراير. وفيما بعد ذلك، فإن الأحزاب السياسية لم تواتها الفرصة، أو لم تواتها الشجاعة لإثبات وجودها وفاعليتها، وظلت على حافة نظام 23 يوليو، وعلى هامشه، وحين عادت إلى تواجدها، فإنها جاءت بقرار من الرئيس السادات، ووفق حدود لم تستطع تجاوزها».

وهكذا استطاع عبدالناصر والسادات أن يقتلا الأحزاب السياسية في مصر، كما قال شفيق مقار في كتابه (قتلُ مصر: من عبدالناصر إلى السادات).

- 5 -

وعندما جاء مبارك إلى الحكم، وجد الأحزاب المصرية جثة هامدة، فحاول أن يبث فيها الروح من جديد، ويُرمم ما تبقى، وقامت صحافة المعارضة، ونشطت أحزاب المعارضة، ولكنها كانت تفتقر إلى البرامج السياسية والقيادة، التي أهلكتها وقضت عليه العهود الخديوية، والملكية، والجمهورية، وكانت هناك أخطاء قاتلة، ارتكبها عهد مبارك، منها استئثار «الحزب الوطني» الحاكم بالسلطة لسنوات طويلة، وترشيح مبارك للرئاسة عدة مرات، وشائعة توريثه الحكم لابنه جمال، وشائعات أخرى كثيرة، كانت تملأ الشارع المصري، وكانت تغذيه قوى اليمين الديني، المتربِّص بالحكم، والطامع فيه.

إذن، كل ما نراه ونسمعه عن العنف والحقد اللذين ينفثهما الشارع المصري الآن، ليسا بسبب ما جاء به عهد مبارك، الذي كانت له إيجابياته الكثيرة وسلبياته الكثيرة كذلك. فعهدٌ ورث تركة الملكية، والجمهورية الناصرية والساداتية، بكل سلبياتها، وعيوبها، وكوارثها، لا بُدَّ أن تكون له أخطاء قاتلة كذلك، ولكن الشيء المؤسف والمحزن حقاً، أن المعارضة التي تحتل الشارع المصري منذ 25/1/2011، غير قادرة حتى الآن أن تكون لها قيادة موحدة، وبرنامج سياسي واقعي وصالح للتطبيق، في ظروف مصر الحالية، تستطيع به أن تحاور الدولة التي تمدّ يدها، وتفتح قلبها وعقلها الآن للحوار، رغم فوات الأوان. وكل ما تنادي به المعارضة هو سقوط النظام، دون تقديم البديل.

ولا تدري المعارضة، أن هدم النظام، أسهل بكثير من بناء حجر من أحجاره.

* كاتب أردني

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء

يمكنك متابعة الكاتب عبر الـ RSS عن طريق الرابط على الجانب الايمن أعلى المقالات السابقة