لو كنت عضواً في الحكومة المصرية لشعرت بامتنان شديد للأنبا بيشوي سكرتير المجمع المقدس للأقباط الأرثوذكس وللعالم الإسلامي والفقيه القانوني الدكتور محمد سليم العوا، لأنهما أشعلا ناراً وهاجة، خطفت أبصار المصريين وكثير من العرب على مدى نحو أسبوعين، وغطت على اعتوارات واختلالات جمة تعتري الأداء الرسمي للدولة المصرية.

Ad

لا تريد أي حكومة في العالم أن تصحو على فتنة طائفية أو عرقية بين قطاعات من رعاياها؛ إذ تفت تلك الفتن في عضد أي دولة، وتضعف سلطتها، وتسيء إلى مكانتها، وتحد من قدراتها على التنافس والتفاوض، وتشوه صورتها أمام العالم.

لكن المماحكات والمناكفات والمشاحنات الطائفية تبقى مع ذلك مفيدة في بعض الأوقات، إذ تتحلى بعدد من المزايا؛ أهمها أنها تصرف أنظار المجال العام عن أي خلل أو عوار، وتُظهر الحكومة في صورة "الإطفائي" الذي يستحق دعم الجميع، فيما يقوم بواجبه "الضروري والمقدس" في إطفاء الحرائق قبل أن تأتي على الأخضر واليابس.

ففي يوم 14 سبتمبر الجاري، أصدرت المحكمة الإدارية العليا بمصر حكماً نهائياً وباتاً ببطلان عقد "مدينتي"، وهو مشروع سكني فاخر ضخم يقام على أطراف القاهرة، وتنفذه شركة يملك الحصة الأكبر فيها الملياردير ورجل الحزب الوطني الحاكم هشام طلعت مصطفى، وهو نفسه الرجل الذي يستأنف راهناً حكماً بإعدامه في قضية مقتل الفنانة اللبنانية سوزان تميم.

يقول الخبراء إن موضوع مشروع "مدينتي" يأتي في سياق أوسع، يخص مساحات شاسعة من الأراضي الصحراوية، التي تمتد حول العاصمة المصرية، والتي وصلتها المرافق ونشأت بها تجمعات عمرانية فاخرة، تعكس نمطاً سكنياً راقياً، وتدر أرباحاً خيالية على المالكين والمطورين العقاريين، خصوصا هؤلاء الذين حصلوا على الأراضي بعقود تخصيص بالأمر المباشر.

كانت طريقة التخصيص بالأمر المباشر هي الطريقة السائدة إبان تولي الدكتور محمد إبراهيم سليمان حقيبة الإسكان؛ إذ دأب الرجل على تخصيص الأراضي للأفراد والشركات والمطورين العقاريين باعتبار أنها صحارى تحتاج تطويراً، ولذلك فإن هؤلاء لم يدفعوا سوى أسعار تكاد تكون رمزية، لكنهم عادوا وباعوا تلك الأراضي وما عليها من مبان بأرقام خيالية.

ويبدو أن وزير الإسكان الحالي المهندس أحمد المغربي فطن إلى ما ينطوي عليه الأمر من خطورة؛ إذ غير نظام منح الأراضي منذ تولى تلك الحقيبة الحساسة ليصبح بالمزايدة بدلاً من التخصيص المباشر، رغم أن شركة يمتلك فيها حصة معتبرة كانت استفادت من نظام التخصيص سابقاً.

على أي حال، فقد وصفت المحكمة تخصيص الأراضي التي أقيمت عليها "مدينتي"، ومدها بالمرافق، من دون مزايدة، وبمقابل 7% من إجمالي الوحدات التي سيتم إنشاؤها على مدى عشرين عاماً، بأنه "أمر عجيب، وتصرف في المال العام محاط بالكتمان، وبيع بمقابل ضئيل، وعقد بشروط مجحفة".

ورغم صدور هذا الحكم القاسي البات والنهائي، ورغم ما ينطوي عليه من اتهامات واضحة للجهات التي أبرمت العقد أو راقبت إبرامه، ورغم التداعيات الهائلة التي نتجت عنه سواء على صعيد تراجع البورصة، وانهيار الثقة في سوق العقار المصرية، والأضرار التي لحقت بالحاجزين في المشروع أو حاملي أسهم الشركة المنفذة، فإن أحداً في البلد لم يسأل عن المسؤولية الجنائية عن هذا العقد.

أغرب ما حصل في موضوع "مدينتي" هو صدور حكمين ببطلان عقدها، واعتراف الدولة بالبطلان، وتوجيه رئيس الدولة للحكومة بتشكيل لجنة قانونية "محايدة" لبحث سبل تنفيذ الحكم، وتوصل اللجنة إلى حل يقضي بمصادرة الأرض من الشركة، ثم إعادتها إليها وفق شروط جديدة مع الحفاظ على المراكز القانونية للأطراف المختلفة، وتراجع أسعار الأسهم في البورصة، وتهديد مستثمرين دوليين برفع دعاوى تعويض على الحكومة المصرية، وركود سوق العقار، واهتزاز الثقة بنحو 120 مشروعاً عقارياً ضخماً حصلت على أراضيها بذات الطريقة التي جرمتها المحكمة، وتردي صورة الجهاز الإداري للدولة وإثارة الشبهات حوله، من دون أن يسأل المجتمع أو يعرف اسم شخص واحد، أو جهة واحدة، تتحمل مسؤولية كل هذه الكوارث والأخطاء الرهيبة.

وقبل أن يتفاقم موضوع "مدينتي" أكثر، ويأخذ النقاش المجتمعي حوله مساراته الطبيعية التصعيدية، وفيما كان الرأي العام منشغلاً كذلك بقضية "نواب العلاج"، حيث كشفت تحقيقات عن تورط أعضاء بالبرلمان في تبديد ملايين الجنيهات على مستفيدين وهميين من العلاج المجاني، وعن وزراء من مجموعة رجال الأعمال الأثرياء أنفقوا ملايين الجنيهات على علاج أنفسهم أو ذويهم، ظهرت أزمة تصريحات الرجل القوي في الكنيسة الأرثوذكسية الأنبا بيشوي.

قال بيشوي لصحيفة "المصري اليوم" بعد صدور حكم "مدينتي" بيوم واحد إن "المسلمين المصريين ضيوف على المسيحيين"، وإن "رجال الكنيسة مستعدون للاستشهاد" فيما يخص المس بعقيدتهم عبر الأحكام القضائية، قبل أن يفجر مفاجأة من العيار الثقيل قبل أيام قليلة؛ إذ تساءل في محاضرة مكتوبة وزعها في مؤتمر "تثبيت العقيدة"، عما إذا كانت إحدى آيات القرآن الكريم الخاصة بالموقف من المسيحيين "قالها النبي محمد أم أضيفت في عهد عثمان؟".

وفي اليوم ذاته الذي نشرت فيه صحيفة "المصري اليوم" تصريحات الأنبا بيشوي، كان الدكتور العوا ضيفاً على برنامج "بلا حدود" في فضائية "الجزيرة"، وحيث صدّق الرجل على إمكانية جلب الكنيسة المصرية السلاح وتخزينه، وزاد قائلاً: "الكنيسة وبعض رجالها يعدون لحرب ضد المسلمين".

ما صدر عن بيشوي والعوا، وقبله الكثير من الاحتقان والتضاغط والتظاهرات والاحتجاجات على خلفية موضوعات "أسلمة وتنصير"، و"اعتداءات مسلحة على خلفية طائفية"، واحتجاز الكنيسة لسيدتين قيل إنهما أعلنتا إسلامهما، وسكوت الدولة عن اختفائهما، كان كله بمنزلة عصا موسى التي ابتلعت كل الثعابين، فكانت تلك هي القضية الأكثر إشغالاً للرأي العام، والموضوع الأكثر قراءة في الصحف والمنتديات، والقصة الأكثر مناقشة في المقاهي والبيوت وعلى الشاشات.

في قصيدته الرائعة "من أوراق أبي نواس"، يقول الشاعر المصري أمل دنقل:

لا تسألني إن كان القرآن مخلوقاً أو أزلي

بل سلني إن كان السلطان لصاً أم نصف نبي

لكن الرأي العام العربي لم يقرأ هذه القصيدة جيداً، ولذلك فهو يغرق في أحاديث الفتن والشقاق الطائفي والإثني، وينصرف عن إدارة أزماته ومحاسبة ناهبيه، ويزهو بتقليديته وانصرافه إلى العصبية والتنقيب في الخراب، ويحرص على البقاء بعيدا عن الرشد والحداثة بكل ما أوتي من قوة.

ليست تلك قصة تحدث في مصر فقط، لكنها تحدث في كل بقعة من بقاع العالم العربي.

* كاتب مصري