شربت لومي
في الفرصة الكبيرة، كان يقف ضمن حلقة من الباعة الذين يحاصرون المدرسة، ملعلعاً بصوت رفيع وحاد، داعياً إيانا إليه في حمى المنافسة المستعرة بينه وبين الآخرين.كان في نحو الأربعين، ضئيلاً ونشيطاً مثل جرادة، وكانت إحدى عينيه تأخذ نصيباً وافراً من الراحة على حساب أختها، فقد كان على الدوام يغلقها بقوة، فيبدو أعور وما هو بأعور. ولولا رقة وهشاشة زنديه وساعديه لحسبته صورة حية لشخصية (بوباي) في الرسوم المتحركة.ولعل هيئته تلك قد أغنتنا عن معرفة اسمه، إذ مضت أعوام لقائنا به ونحن لا نعرف إلا شكله المرتبط عضوياً بالسطل القائم أمامه ممتلئاً بنقيع ليمون البصرة الأسود الجاف.
كان طعم النقيع لذيذاً وعذباً ومنعشاً، إذ تعادل حموضته كمية كبيرة من السكر المذاب، وتسبح فيه قطع الثلج المكسرة.يدق الجرس، فلا نسمع من بين لغط أصوات الباعة غير رنين صوته الممطوط بإخلاص: شربت لومي... ويمد الياء حتى آخر دفقة هواء في صدره، ليجذب شهيقاً ثم يعيد النداء.ولم يكن في الواقع بحاجة الى إرهاق حباله الصوتية بهذا النداء المكرر، لأن السطل وحده بحبيبات الماء المتفصدة على خاصرته نتيجة البرودة، كان يكفي، على رغم صمته، لمناداة أعمق أشواقنا.كان ذلك الرجل يحتفظ الى جانب سطل النقيع بسطل آخر ممتلئ بالماء لغسل الأكواب، وكلاهما قائم فوق صندوق خشبي تتجه فتحته إليه، وكنا نخمن بالمشاهدة أنه مخزن للأكواب النظيفة، إذ كانت يده تمتد داخله عند كل طلب فتخطف كوباً بخفة ساحر، بينما يده الأخرى تغمس المغرفة في سطل النقيع وترتفع لتملأ الكوب، مصدرة خريراً هادراً وعميقاً.كنا نحب ذلك الرجل كثيراً، ليس لأنه يتيح لنا أن نشتري أنصاف الأكواب بنصف الثمن، لكن لأنه، بهذا التساهل، يسمح لنا بأن نخدعه عياناً وهو يضحك مسروراً. ذلك لأن نصف الكوب لم يكن نصفاً إلا باللفظ، إذ لم يكن الرجل ليقيس عمق الكمية بمسطرة، وعليه فقد كانت المغرفة تملأ ثلثي الكوب دائماً، فتمنحنا فرصة احتساء كوب وثلث كوب بثمن كوب!ولأننا، على رغم همجيتنا ونهمنا وطمعنا، كنا نحتفظ ببعض الحياء والشفقة، فقد تعودنا أن ندير ظهورنا بعد النصف الأول، ونتجول لبرهة في الساحة، ثم نعود لشراء نصف آخر، فيخدمنا وكأنه يرانا لأول مرة، ويتشاغل عن وجوهنا بالنظر أمامه بلا تحديد، مطلقاً عقيرته بالنداء: «شربت... لوميييي» ثم لا ينسى، بعد أن يناولنا الكوب، أن يقول بصوت هادئ وحنون: «بالعافية».وبعد أعوام عدة، كنت خلالها قد غادرت مضيق المراهقة إلى رحبة الشباب، دخلت مقهى متواضعاً مواجهاً لسوق الخضار في باب الزبير، ففوجئت برؤية ذلك الرجل مجدداً. وما عدا الشيب الذي غزا شعر رأسه بأجمعه، والشعيرات البيضاء النابتة بإهمال على جانبي وجهه، لم يكن قد تغير منه شيء. فالابتسامة الطيبة نفسها، والضآلة نفسها، والعين التي تنام على حساب أختها هي نفسها لولا أنها لم تكن مغمضة بقوة شبابها السالف، ربما لأن النور لم يكن ساطعاً داخل المقهى.هرع إلي بمئزره الأبيض، وسألني بلطف: «طلباتك»... تأملته مبتسماً، ومددت يدي لمصافحته وأنا أسأله بمودة: «كيف حالك يا عم؟».مد يديه الاثنتين واحتضن كفي كمن يحضن عصفوراً، وقد اتسعت ابتسامته، «الحمد لله والشكر... أتعرفني؟».قلت وأنا أستعيد ذكرى تلك الأيام العذبة: «لقد مضى زمن طويل على آخر مرة رأيتك فيها. هل تذكر أيام كنت تبيع لنا عصير الليمون أمام ثانوية البصرة؟». ضحك بهياج مثل طفل، وقال منشرحاً: «أوووه... أنت معرفة قديمة إذن. إيه ذاك زمان. إنني أملك الآن هذا المقهى. هو صغير لكن فيه الكفاية. الحمد لله والشكر... نعمة».طلبت منه شاياً، فنادى الصانع بحمية داعياً إياه أن يحضر لي أفضل قدح شاي، وظل واقفاً إلى جانبي يتأملني مبتسماً:قلت له، وكأنني أكفر عن ذنب قديم: «أتعرف أننا كنا نخدعك؟».أبدى دهشة مصطنعة، وقطب حاجبيه كالغاضب، لكنه كان في الوقت نفسه يبتسم بمودة: «تخدعونني؟ كيف؟!».ذكرت له حكاية أنصاف الأكواب التي لم تكن أنصافاً في الحقيقة، وما إن أنهيت حديثي حتى طفق يضحك بحرارة دمعت لها عيناه، واستقطبت انتباه جميع من في المقهى.مسح عينيه، وسحب كرسياً وجلس قبالتي، وقال وهو لا يزال يكسر ضحكته بخفوت: «أتعرف أن الكميات الزائدة التي وهبتكم إياها لم تكن إلا ماء خالصاً؟ نعم... لقد كنت أهيئ داخل الصندوق، لطالبي الأنصاف، أكواباً ممتلئة حتى ربعها بالماء».وعاود قهقهته وهو ينهض مطبطباً على كتفي، فشاركته الضحك بالعدوى، على رغم اضمحلالي أمام اعترافه الموجع. وسارعت إلى القبض على ذراعه مستعطفاً: «أستحلفك بالله ألا تعامل قدح الشاي بالطريقة نفسها ... سأدفع ثمنه كاملاً».قال وهو يحيط ظهري بحنان: «أستطيع أن أحلف على شيء واحد... هو أنك لن تدفع ثمن الشاي إطلاقاً. عيب يا رجل... نحن معرفة قديمة».* شاعر عراقي