لو طلب مني قبل سنوات أن أتخيل «عجائزنا» يتواصلن عبر خدمة هاتف الفيديو عبر الأقمار الصناعية، لظننت أنني استلقيت على ظهري ضحكاً قبل أن أستطيع التخيل! لكن يا سبحان الله، ها هي قد دارت الأيام، وشاهدت بأم عيني كيف صرن بالفعل يتواصلن عبر خدمة هاتف الفيديو ببرنامج «تانجو» مع أبنائهن في الخارج، وإن كنت- وأعترف بهذا- فإنني لاأزال أضحك حين أرى المشهد!
هذا الانفجار الكبير السريع في وسائل الاتصال والتواصل، والذي استطاع تقريب البشر في أنحاء الأرض إلى بعضهم بعضاً، بشكل كان هناك من يعتبره ضربا من ضروب الخيال العلمي، قد صار اليوم واقعاً يُرى رأي العين، وصار الإنسان مرتبطا بمن يريد من البشر في زوايا العالم، طوال الوقت، عبر هاتفه الذكي الذي يحمله في جيبه أينما راح وحل.عشرات، بل لعلها مئات، من البرامج والخدمات التي ظهرت خلال السنوات القليلة الماضية للتواصل الفردي والجماعي، حتى وصلنا اليوم إلى أن مليارات من البشر والجماعات والمؤسسات والهيئات يشتبكون ببعضهم بعضاً من خلال مكالمات الهواتف النقالة، والرسائل القصيرة والبريد الإلكتروني وعبر موقع «فيسبوك»، ومن خلال خدمة «تويتر»، وعبر برامج المحادثة «واتسب» و»تانجو» وغيرها وغيرها!صورة سيريالية، أشبه بالخيال العلمي كما كنا نتخيل قبل سنوات ليست ببعيدة، لكنه الواقع المعاش اليوم، والآخذ في التوسع بشكل لا يمكن تصوره!إلا أن هذا الانفجار، وبالرغم من روعة فكرة التواصل المستمر بين الناس طوال الوقت، وسهولة الوصول، وبالمجان أو بسعر زهيد، لمن تريد الوصول إليه في أي لحظة، لم يأت دون سلبيات بطبيعة الحال، بل جاء محملا بمشاكله وعثراته التي بدأ الناس ينتبهون إليها، من خلال المعايشة والتجربة يوما بيوم، ولحظة بلحظة.ومن المشاكل التي لم يُكتب فيها كثيرا، في العالم العربي على الأقل، هو أن هذه الوسائل المتعددة، قد خلقت على مستخدميها حالة من حالات الضغط العصبي المستمر، والذي قد يصل في بعض الأحيان، إلى القلق والتوتر المرضي الذي يستدعي العلاج!قبل سنوات، وقبل أن يظهر الهاتف النقال، وقبل الإنترنت طبعا، كان الناس يتواصلون إما بالهاتف الأرضي، وإما من خلال الزيارات المباشرة، ولهذا كان الواحد منهم قادراً على الاختلاء بنفسه وبأفكاره، وبالحصول على فترات من الهدوء الذي يحتاجه في يومه وليلته، وأما اليوم فالإنسان «مشبوك» بالتواصل مع الآخرين طوال الوقت، فلا تكاد تمر دقيقة من عمره إلا قد وصلته مكالمة أو رسالة أو صورة أو فيديو، ولا تكاد تمر دقيقة لاحقة من عمره إلا وهو يستجيب لمكالمة أو رسالة أو صورة أو فيديو. اتصال محموم طوال الوقت، وأما المفارقة في الأمر، أن هذا التواصل قد صار في كثير من الحالات، إن لم يكن أغلبها، على حساب التواصل البشري الحقيقي، لكن هذه الجزئية بالذات ليست موضوع هذا المقال، وتستحق مقالا مستقلا بذاته.هذا التواصل المحموم جعل الإنسان يشعر أنه مضطر وملتزم بالتواصل مع عشرات الناس الذين يراسلونه عبر مختلف هذه الخدمات، وما عاد بإمكانه أن يطفئها ويخلد إلى الراحة متى ما شاء، فهؤلاء على الطرف الآخر هم بشر، وسيتساءلون ويعاتبون ولن يعذروه غالبا، وسيطالبوه بالبقاء متواصلا، ومن البدهي أن هذه التواصلات ما كانت لتأتي خالية من تأثيرات في الفكر والنفس والعاطفة، وعليكم فقط أن تتخيلوا كمية الضغط العقلي والنفسي والعاطفي الذي سيرزح تحته الإنسان طوال اليوم!كثير من الناس اليوم، ومع كثرة وسائل الاتصال، قد فقدوا قدرتهم على أداء أعمالهم بشكل متواصل سليم، وكثير منهم قد فقدوا قدرتهم على التركيز الطويل على أي شيء لكون عيونهم مشغولة طوال الوقت بالنظر إلى شاشات هواتفهم المحمولة، بل كثير منهم قد بدأت علاقاتهم الاجتماعية بالبشر المحيطين بهم في الحقيقة بالتضرر، من جراء كثرة انشغالهم بهذا التواصل الإلكتروني!ونحن اليوم في مرحلة قرع الجرس بعنف وقوة للتنبيه إلى ما يجري، فهذا الأمر، الذي صرنا نعانيه جميعا في الحقيقة، يتطلب، الآن ودون تأخير، من كل شخص وقفة جادة لإعادة ترتيب أموره، ووضعها في نصابها، وإلا ستصل به الحال إلى مرحلة الانهيار تحت وطأة الضغط المتزايد وصولا إلى نقطة اللاعودة!
مقالات
أنقذوا انفسكم واهليكم قبل الانهيار!
08-02-2011