ديمقراطيتهم... وديمقراطيتنا!
بقي الحزب الليبرالي (الديمقراطي) البريطاني ينتظر نحو قرن كامل لا ليعود إلى السلطة ولكن ليشارك فيها، وذلك مع أنه أقدم الأحزاب الفاعلة في بريطانيا وأنه بقي يتربع في موقع المسؤولية سنوات طويلة فهذه هي الديمقراطية الحقيقية، حيث التداول على الحكم يعتبر أمراً مقدساً، وحيث يبقى أي حزب يغير ويجدد في برامجه الانتخابية إرضاءً لتوجهات الناخبين وميولهم ومطالبهم إلى أن تحين فرصة سانحة وإن كانت محدودة.وما ينطبق على الحزب الليبرالي (الديمقراطي) ينطبق أيضاً على حزب المحافظين (التُّوري) وعلى حزب العمال، الذي فقد سلطة أوصله إليها توني بلير بعبقرية فذة وشباب يتدفق عطاءً وحيوية، والذي دخل مرحلة ابتعاد عن الحكم لا أحد يستطيع التكهن بمدتها لكنها في كل الأحوال تتوقف على أداء الحزب المنافس، وما إذا كان سيصمد كما كانت إليزابيث تاتشر (المرأة الحديدية) التي أسقطها زملاؤها في الحزب الذي أسقطته، بعد فترة انتقالية قادها جون ميجر، صناديق الاقتراع.
في بلادنا الممتدة من المحيط الهادر إلى الخليج، الذي لم يعد ثائراً، تُستخدم الديمقراطية، وأي ديمقراطية، كبطاقة لسفرة واحدة، فالحزب أو القائد "الفذُّ" الذي يتسلل إلى الحكم عبر صناديق الاقتراع المثقوبة يبادر فوراً إلى تحطيم هذه الصناديق ويبدأ العمل على أساس: "من المهد إلى اللحد" ويلجأ إلى تسخير كل مراكز القوى وكل القوانين... وكل شيء ليكون التداول على السلطة في العائلة نفسها من الأب (المحبوب والمحترم من الأمة العربية كلها لا مِنْ شعبه الوفيِّ فقط) إلى الابن إلى ابن الابن وعلى طريقة ما جرى ويجري في كوريا الشمالية.بدأ حزب البعث في أربعينيات القرن الماضي بداية جميلة وواعدة، مع أن دستوره نصَّ على أنه حزب انقلابي، لكنه ما لبث أنْ انعطف نحو الحالة الآسيوية (هنا لابد من استثناء الهند) بعد انقلابي فبراير في العراق ومارس في سورية، وبدأ ضباطه بالانقلاب على زملائهم في حلقات متداخلة في سلسلة طويلة انتهت بالانتقال إلى الوراثية (الثورية) وإلى تلك الانتخابات التي فاز فيها صدام حسين بكل أصوات العراقيين، وكأنه لم ينتقل في ذلك اليوم إلى جوار ربه عراقي واحد حتى من نزلاء السجون الذين كان رصاص الرسالة الخالدة يثقب صدورهم مع مطلع كل فجر ونهاية كل يوم.أليس مضحكاً حتى البكاء أن ينفذ ضابط صغير انقلاباً ضد ضابطٍ كان قد انقلب على منْ كان انقلب على غيره، ثم يلجأ هذا الضابط إلى كذبة صناديق الاقتراع ويبقى متمترساً في هذا الخندق بحجة أن الجماهير (الغفورة) تريده رئيساً إلى أنْ تقضي الضرورة بأن يتبادل السلطة مع ابنه وهكذا، ومع ذلك فإن كل من يحاول الاحتجاج يتهم بالتآمر بدعم من العدو الصهيوني على الشرعية! وأي شرعية.