"أعطني جريدة أعطك حزباً" هذا ما قاله فلاديمير اليتش لينين عشية تفجر ثورة أكتوبر "البولشفية" التي وصفت الأيام العشرة التي استغرقتها بأنها "هزّت العالم"، وبغض النظر عما انتهى إليه هذا الحزب الذي أعطته الشرارة (الإيسكرا) للاتحاد السوفياتي الذي انتهى نهاية مأساوية في مطلع تسعينيات القرن الماضي بعد عمر استطال أكثر من سبعين عاماً، فإن هذه المقولة تدل على الإدراك المبكر لأهمية الإعلام عندما كانت الصحافة الورقية تحل محل الفضائيات المتفجرة مع بزوغ فجر الألفية الثالثة من التاريخ.

Ad

إن هذه الفكرة خطرت في بالي بينما كنت أتابع حكاية استقالة صديقي عبدالرحمن الراشد، الذي كنت ولا أزال أخاطبه بـ"صديقي الشرعي والوحيد" من فضائية "العربية" وعزوفه عن كتابة عموده اليومي تقريباً في صحيفة "الشرق الأوسط" التي مع الاحترام لكل زميلاتها التي سبقتها صدوراً والتي جاءت بعدها، لا تزال هي سيدة الصحافة العربية ولا يزال مَن لا يقرأها في أي يوم من الأيام يصعب عليه التقاط لحظة تاريخية قد تكون من أهم اللحظات التاريخية.

ولأنني كنت أحد الذين شهدوا فضائية "العربية" عن قرب في عام 2003 وبقيت متابعاً لها منذ تلك اللحظة وحتى هذه اللحظة فإنه بإمكاني أن أؤكد، وبكل راحة ضمير، كلَّ ما قاله "صديقي الشرعي والوحيد" بشأن أن هذه الفضائية قد ساهمت مساهمة لا ينكرها إلا جاحد في عقلنة الإعلام الفضائي العربي، الذي بعضه تحوّل إلى "محاريك شر" وإلى البحث عن أي مرضٍ اجتماعي عربي للنفخ فيه وتحويله من مجرد ظاهرة عابرة صغيرة إلى مأزق بحجم رواسي الجبال، وأنها بقيت وفية للهدف النبيل الذي أُطلِقت من أجله والذي هو مواجهة آفة الإرهاب، والذي هو أيضاً حمل لواء الإصلاح والتحديث والدفاع عن القضايا العربية والإسلامية بالكلمة الصادقة وبالحكمة والموعظة الحسنة.

بينما اتجهت زميلات لها سبقتها في الظهور والولادة إلى الإثارة وتحريض العرب في كل قطر من أقطارهم وفي كل دولة من دولهم بعضهم على بعض، فإن "العربية" اتخذت هيئة الدبلوماسية السعودية في الوقار وفي الحرص على لمِّ الشمل والابتعاد عن الفرقة. وحقيقة هذه شهادة قد آن أوان قولها، إن عبدالرحمن الراشد قد وجد هذا الطريق أمامه ممهداً عندما جاء ليقود هذه الفضائية التي كانت قد بدأت الخطوة الأولى من رحلة آلاف الأميال بوضوح الرؤية التي وفرها لها الشيخ وليد الإبراهيم الذي أشعر أنني أغمطه حقه إن لم أقل إنه فارس الإعلام الفضائي العربي بلا منازع.

وبالطبع ولأن "العربية" قد أتت بما لم تستطعه الشقيقات التي جاءت قبلها وبعدها، ولأنها حافظت على وقارها وعلى مصداقيتها وبدأت تحرز نجاحات حقيقية في مهمة الإصلاح الاجتماعي والسياسي التي كانت هدفاً من أهدافها الرئيسية، فإنه لا غرابة أن تواجَه الآن بكل هذه الحملات الاتهامية الجائرة، كما كانت وجِّهت إليها من قبل المزايدين والغوغائيين ودهاقنة جلسات التحشيش الفكري تهمة أنها "عبرية" وليست عربية، وأن غايتها تسويق "الصفقات الاستسلامية" وهدم جدار الصمود المقاوم الذي تقوده جمهورية محمود أحمدي نجاد الإيرانية!

هناك إعلاميون وكتّاب وصحافيون قد نتفق معهم وتعجب بكلامهم لكنك لا تحترمهم لأنهم لا يتحدثون لا عن معرفة ولا عن قناعات، ولكن تماشياً مع أولياء نعمتهم، وعبدالرحمن الراشد قد نختلف معه، ولكنك لا تملك إلا أن تحترمه، لأنه يتحدث بقناعة وبمعرفة، ولأنه دائماً وأبداً يغلب العام على الخاص، وهذه هي مواصفات ما نحن بحاجة إليه، بينما منطقتنا بحاجة إلى أصحاب القناعات الصادقة والرؤى الثاقبة وبخاصة وهي تخوض معركة التحديث والإصلاح... وأيضاً "الليبرالية".