لم يكن الإعلام العربي على قدر آمالنا فيه كثيراً؛ فثمة أخطاء ومخالفات مهنية صارخة ترتكب عبر المنظومات الإعلامية في كل بلد من بلداننا، ومع ذلك سنجد دوما أن الإعلام كان سنداً رئيساً للكثير من حالات التغيير الاجتماعي الإيجابي، وفي بعض دولنا نجده وقد تصدى، وحده أحياناً، لعملية الرقابة على مؤسسات الحكم في وقت تقاعست فيه المنظمات الرقابية عن النهوض بأدوارها.

Ad

لم يكن الأداء الإعلامي العربي ذلك النمط من الأداء الذي يمكن الدفاع عنه بسهولة على أي حال، لكنه أيضاً كان ضمانة للتطور الديمقراطي في مجتمعاتنا، وكان سنداً رئيساً لفئات مهمشة ومظلومة لم تجد أبواب المؤسسة الرسمية مفتوحة لكي تنفذ خلالها وتطرح مطالبها ومشكلاتها الملحة.

اليوم نجد، في أكثر من بلد عربي، هجمة حكومية على الحريات الإعلامية، لأسباب عديدة بعضها ذو وجاهة؛ مثل الحديث عن «ضبط الانفلات في الأداء الإعلامي»، وأغلبها لا يستهدف سوى تكميم الأفواه وكبت الحريات.

تلك أربع حكايات عن حرية الإعلام، من أربع دول خارج عالمنا العربي، لكنها حافلة بالعبر والدروس التي نرجو أن تستخلصها حكوماتنا وتهتدي إليها.

(1) كانت الحكومة الإيرانية تعي أن الجمهور بات محبطاً من سياساتها العقيمة؛ فعوائد النفط الكبيرة لم تستثمر لتحسين حياة الناس، والرخاء الذي وعد به المحافظون والمتشددون لم يتحقق، كما لم تخف قبضتهم الخشنة على الحريات، وصورة البلاد تتدهور في الخارج، ومواقف الإصلاحيين المعارضين تتعزز ويربحون كل يوم مواقع جديدة.

قررت الحكومة أن تمرر الانتخابات الرئاسية الأخيرة بأقل خسائر ممكنة، وأن تضمن فوز الرئيس نجاد بولاية جديدة، وأن تقهر منافسيه الإصلاحيين عبر كل الوسائل الممكنة، وأن تًنجز هذه السياسة في كتمان، بحيث لا يسمح لوسائل الإعلام المحلية أو الدولية بتغطية تفاعلاتها.

أوقفت الحكومة صحفاً وإذاعات عن العمل، وسجنت صحفيين، وأغلقت مكاتب، وأبعدت مراسلين، وفرضت إجراءات صارمة على الاقتراب من لجان التصويت، وقمعت كل من حاول تصوير مظاهرة أو وقفة احتجاجية.

(2) أُسقط في يد إسرائيل، وأصيبت بنكسة حقيقية، لقد شنت حربها على لبنان في 2006، لكي تسحق «حزب الله»، وتعيد لجيشها الهيبة بعدما أًهُينت سمعته في 2000، فلم تنجح إسرائيل في تحقيق أهدافها في الحرب؛ فعلى الرغم من أن آلتها العسكرية أعملت في لبنان القتل والتدمير، فإن قواتها تكبدت خسائر كبيرة، وطالت الصواريخ المستوطنين في بلدات الشمال، وأهدافها الاستراتيجية من تلك الحملة الشرسة لم تتحقق، لكن أقسى الهزائم التي مُنيت بها كانت هزيمتها في الإعلام، حيث ظهر جيشها أمام العالم «همجياً، وخائباً، ومتدني الكفاءة». تعلمت إسرائيل من التجربة، فقد شكلت لجنة «فينوغراد» لتقصي أسباب الإخفاق، وعرفت أن الإعلام كان سبباً من أسباب تضرر صورتها وتفاقم الغضب الدولي إزاء سياساتها العدوانية؛ ولذلك فقد قررت أن يكون عدوانها التالي على غزة، في نهاية 2008 ومطلع 2009، من دون تغطية إعلامية واسعة ومنفتحة؛ فاتخذت سلسلة من الإجراءات التقييدية التي يمكن أن تضمن من خلالها التحكم بكل الأخبار والصور والتقارير التي تخرج إلى العالم بخصوص المعارك، كما أنشأت جهازاً متخصصاً لصياغة الرسائل الإعلامية الدعائية، لتغرق بها الإعلام العالمي، بما لا يسمح بظهور أي رسائل أكثر موضوعية عن حقيقة الأوضاع.

(3) كان الغطاء الأخلاقي والقانوني الذي استخدمته الولايات المتحدة لتبرير غزوها لأفغانستان والعراق مقنعاً بدرجة كبيرة؛ فها هي دولة عظمى تُضرب داخل أراضيها، ويموت الآلاف من سكانها المدنيين تحت هجوم غادر بلا ذرائع، ثم يظهر تهديد جديد لها وللسلم والأمن العالميين؛ حيث يطور نظام مستبد ومغامر منظومة أسلحة دمار شامل، يمكن أن تأخذ العالم إلى هاوية، أو تُخضع منطقة الشرق الأوسط إلى هيمنته واستبداده.

لم تكن الولايات المتحدة بحاجة إلى جهد كبير لكي يصدق العالم أنها ذاهبة إلى أفغانستان والعراق لمطاردة الإرهاب، وجلب الأمن والاستقرار والسلام والديمقراطية، وصيانة حقوق الإنسان، خصوصا أنها أغرقت العالم برسائل إعلامية مصنوعة باحتراف عن «قوة السلام والأمل والمثل العليا» التي تأتي إلى «خرائب العالم الثالث الغارقة في الاستبداد والهمجية والتخلف»، لكي تقودها إلى مستقبل واعد حافل بالديمقراطية والرخاء واحترام قيمة الإنسان.

(4) تعلمت الصين الدرس. يقول نقاد الصين إنها ما زالت تُحكم بنظام قمعي، وإن الحريات فيها تداس وتهان، لكن كثيرين منهم لا يستطيعون اتهام هذا النظام بـ»الغباء»، ولذلك فقد استخلصت الصين العبر من تجربة أحداث «التيبت» في 2008، حيث فضحت وسائل الإعلام العالمية الحكومة، وتركت وصمة عار في جبينها لم تمح إلى الآن.

حين وقعت أحداث عنف متبادلة بين الحكومة وأقلية «الإيجور» العام الماضي، عمدت بكين على الفور إلى تطوير خطة إعلامية تقوم على انفتاح حقيقي مع وسائل الإعلام العالمية، بحيث تترك للمراسلين الأجانب الحرية اللازمة لتغطية الأحداث على النحو الأمثل. كانت بكين قد أدركت أن الرسائل الصادرة عن الإعلام النظامي أكثر مسؤولية وأقل إيحاء من تلك الصادرة عن ترسانة ضخمة من وسائل الإعلام غير النظامية، وأن ترك الإعلام النظامي يعمل في حرية وانفتاح أفضل ألف مرة من ترك الجمهور هدفاً سهلاً لأي رسالة تصدر عن أصحاب الأغراض أو القوى الخفية أو خفافيش الظلام أو غير المحترفين والملتزمين بقواعد المهنة وشروطها. وبما أننا ختمنا بحكاية صينية؛ فلنختم أيضاً بمثل صيني، والمثل يقول: «الجاهل يتعلم، والعاقل يستنتج».

لقد فُضحت الحكومة الإيرانية شر فضيحة، وباتت الانتخابات الرئاسية الأخيرة «مزورة» في الضمير العالمي، حتى إن لم تكن غير ذلك في الحقيقة، وكانت صورة الناشطة القتيلة «ندا سلطان» أيقونة عالمية لشهور، ووسط عدد محدود من الرسائل الصادقة عن طبيعة ما جرى على هامش الانتخابات، كانت هناك آلاف الرسائل المدسوسة التي أتت عبر «فيس بوك» و»تويتر»، والتي صدقها الناس، رغم أن أحداً لم يتثبت من صحتها. أما إسرائيل، فقد فضحها الإعلام الجديد شر فضيحة في غزة، كما فقدت الولايات المتحدة أي ذرائع أخلاقية أو إنسانية يمكن أن تستند إليها لمهاجمة أسوأ النظم السياسية، بعدما عرف العالم أجمع عبر «ويكيليكس» أنها لا تقل همجية وعدم احترام للقانون عن النظم التي تعاديها. لا تقمعوا الإعلام، لمصلحتكم وليس لمصلحتنا.

* كاتب مصري

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء

يمكنك متابعة الكاتب عبر الـ RSS عن طريق الرابط على الجانب الايمن أعلى المقالات السابقة