فيلمٌ عن حياة موسيقي. جملةٌ تكفي لأن أستعدَ بهمة للذهاب إلى دار العرض. قبل عام صدر فيلم للمخرج الهولندي جان كونين (مواليد 1962)، حول علاقة مفاجئة بين الموسيقي الروسي الشهير سترافنسكي (1882-1971)، ومصممة الأزياء والعطور كوكو شانيل، عند أول إقامته في باريس، قادماً من موسكو قبل اندلاع ثورة أكتوبر. ولم يُعرض الفيلم إلا في هذه الأيام في لندن.

Ad

انعدامُ الشبه بين الممثل الدانماري مادس ميكلَسين وسترافنسكي أمرٌ مخيب منذ الوهلة الأولى. فلقد غابت عني طلعةُ الموسيقي القصير القامة، المستطيلِ الوجه، والكبيرِ الأنف. باستثناء النظارة الطبية المدورة. أما الممثلة آن موغلالِس فلا شأن لي بمقدار شبهها بشانيل. فأنا غير معني بالأزياء، ولا بالعطور. وبالرغم من أن الفيلم قد اعتمد في مطلعه على الساعات الدرامية لعرض باليه «شعائر الربيع»، فإن الفيلم لا يكاد ينطوي على جوهر موسيقي.

وضع سترافنسكي موسيقى «شعائر الربيع» عام 1913 في باريس. وتحمست الفرقة الروسية تحت إدارة دياغليف، والراقص نجنسكي لعرضها على الجمهور الفرنسي، بالرغم من معرفتها أن موسيقى سترافنسكي الطليعية الجريئة، في اعتمادها على الإيقاع التعبيري الصاخب، سوف تكون أكثر من مثيرة لجمهور تعود اللحن والهارموني. ولكن العرض الأول كان أكثر من فضيحة، استدعت تدخل الشرطة.

في حمى ردود الأفعال داخل القاعة تم التعارف بين سترافنسكي ومصممة الأزياء كوكو شانيل. كان الموسيقي في الواحد والثلاثين من العمر، متزوج من امرأة أوهنها مرض السل، وله منها ثلاثة أبناء. ينتسب إلى الطبقة الوسطى حين هجر موسكو إلى سويسرا، ثم باريس. ولكن ثورة أكتوبر فيما بعد جردته من رفاهيته، وألقته في خانة المنفيين. على شيء من الشهرة داخل بلده، بعد نجاح عمليه «الطائر الناري» و «بيتروشكا». شانيل تصغره بسنة واحدة، وتنتسب إلى عائلة فقيرة، ولكن موهبتها في التصميم والغناء قادتها إلى تأسيس دار أزيائها التي أوصلتها بدورها إلى مدار النجوم. حياتها العاطفية عالقة بذكرى شاب إنكليزي ثري توفي بحادث، ولم يعد لها من سلوان غير المغامرة العاطفية بين الرجال. وكان سترافنسكي صيدها السمين هذه المرة. أعطته سكناً، هو والعائلة، في قصر لها في الريف. وهناك استحوذت على كل رغائبه الذكورية. كانت الزوجة الوديعة تعرف مقدار التراجيديا الحاصلة. كما كان هو يعرف أيضاً ولكن بإرادة مسحوقة. أما معرفة شانيل فلا مبالية شأن نموذج «الأنثى المميتة».

مرة انتفض عن غير إرادة حين تعاملت معه بندية فنانة مع فنان قائلاً: «أنت لست فنانة، شانيل، بل راعية متجر». هجرته، ولكنها لم تنقطع عن دعمه مالياً. أما هو فبدأ ينسحق تحت وطأة الرغبة الحارقة.

حدث كل هذا قبل أن يهاجر إلى أميركا في عام 1940. كما حدث أن ماتت الزوجة، وانشغل القلب بحب آخر أكثر جدوى هذه المرة مع امرأة فرنسية تُدعى فيرا دي بوسيت.

الفيلم لم ينشغل إلا بعلاقة النجمين الشهوانية. هذه الرغبة التي أغرقت الموسيقى في الظل. في حين بقيت رغبتي معلقة في فراغ. كنت أود، حتى داخل هذه الدائرة الضيقة من العلاقة الشهوانية، أن أرى الشاغل الموسيقي لفنان بارز مثل سترافنسكي، كيف يلتحم، بالتوافق أو التعارض، مع تجربة الحياة العنيفة هذه. ولكن المخرج شاء أن يُفرد الرغائب الحسية عن أي رابط. بسبب أن هذه الرغائب هي أكثر ما يستهوي الناس هذه الأيام.

سترافنسكي قوة ديناميكية متفجرة على الدوام. منذ مرحلة النشأة والنضج الروسية. وهذه القوة نزّاعة إلى الطليعية والتجديد. كان مناخ روسيا قبل ثورة أكتوبر يحفز على هذا. وحين جاء باريس وقع على فردوس المغامرات الروحية، فبدأ بـ»شعائر الربيع». ثم خبر علاقات غنية بالوسط الفني والأدبي، فأسهم مع بيكاسو، ومع كوكتو، وأندريه جيد في أعمال مشتركة. وفي أميركا وفّرت له الحرب العالمية الثانية مئات الفنانين والكتاب المهاجرين من أوربا: اشروود، دِلان توماس، ألدوس هكسلي، أودن، توماس مان، كليمبرَر، روبنشتاين، شوينبيرغ... ويبدو أنه طوى المرحلة الوجيزة الصعبة الماضية طي النسيان، وتفرغ لثمار المجد حتى وفاته.