إحياء الغرب
في عام 2008، وفي وقت كان محفوفاً بالمخاطر المالية، اتحدت جهود العالم من أجل إعادة هيكلة النظام المصرفي العالمي.وفي عام 2009، وفي ظل انهيار التجارة وارتفاع معدلات البطالة إلى عنان السماء، اجتمع العالم ولأول مرة في إطار مجموعة العشرين على هدف منع الركود الأعظم من التحول إلى كساد أعظم على غرار ما حد في ثلاثينيات القرن العشرين.
والآن، بعد أن أصبحنا في مواجهة عقد من النمو المنخفض والتقشف، وغياب الحلول الوطنية لمشكلة البطالة المستمرة، وانحدار مستويات المعيشة، بات العالم في حاجة ماسة إلى العمل الجماعي في النصف الأول من عام 2011 من أجل الاتفاق على استراتيجية مالية واقتصادية أكثر جرأة من خطة مارشال في أربعينيات القرن العشرين، من أجل تحقيق الازدهار العالمي.إن الوقت يمضي، والغرب بات مهددا، فحتى وقتنا هذا لم تستوعب أوروبا وأميركا حقيقة مفادها أن كل الأزمات الفردية التي اندلعت في الأعوام القليلة الماضية- من أزمة الرهن العقاري الثانوي وانهيار ليمان براذرز إلى تدابير التقشف في اليونان وإشراف إيرلندا على الإفلاس- ليست أكثر من أعراض لمشكلة أعمق: ألا وهي أن العالم يمر بمرحلة من إعادة هيكلة القوى الاقتصادية على نحو بعيد الأثر ولا رجعة فيه ولم يسبق له مثيل.لا شك أننا شهدنا جميعاً نهضة آسيا، ونعلم أن صادرات الصين أصبحت أكثر من صادرات الولايات المتحدة، وأنها قريباً سوف تتفوق عليها في التصنيع والاستثمار أيضا، ولكننا لم نتأقلم بشكل كامل بعد مع القوة الكاسحة للتاريخ، فقد أصبحت الهيمنة الاقتصادية الغربية- 10% من سكان العالم ينتجون غالبية صادرات العالم واستثماراته- ذكرى من الماضي، ولن تعود أبدا، وبعد قرنين من احتكار أوروبا وأميركا للنشاط الاقتصادي العالمي، أصبحت بقية بلدان العالم الآن متفوقة على الغرب في الإنتاج والتصنيع والتجارة والاستثمار.ذات يوم وصف أوتو فون بسمارك أنماط تاريخ العالم في عبارة بسيطة: "إن التحولات لا تحدث بالسرعة المنتظمة لقطار يسير على سكة حديدية، بل إنها بمجرد انطلاقها تحدث بقوة لا تقاوم"، وإذا لم يفهم الغرب أن القضية الحقيقية اليوم تتلخص في الاستجابة لصعود القوة الآسيوية الاقتصادية من خلال تجديد قوته، فسوف يجد نفسه في مواجهة احتمال قاتم يتمثل في الانحدار المضطرد، الذي تتخلله لحظات وجيزة من الانتعاش، إلى أن تأتي الأزمة المالية المقبلة، وفي غضون كل هذا فإن الملايين من الناس سوف يصبحون بلا عمل.رغم كل هذا إذن كيف أشعر في قرارة نفسي أن القرن الحادي والعشرين قد يكون القرن الذي تعيد فيه الولايات المتحدة اختراع الحلم الأميركي، فتظل منطقة جذب للشركات الكبرى، والذي تستطيع فيه أوروبا أن تصبح موطناً للاقتصاد الذي يتسم بمعدلات تشغيل العمالة العالية؟السبب وراء هذه القناعة، ومن حسن حظنا جميعاً، أن ما يقرب من مليار من الآسيويين والمزيد من المنتجين في آسيا سوف يتحولون قريباً إلى مستهلكين من أبناء الطبقات المتوسطة أيضاً، بعشرات الملايين أولاً ثم بمئات الملايين.والواقع أن نمو الثورة الاستهلاكية الآسيوية يقدم لأميركا طريقاً إلى مجد جديد، فاليوم ينفق المستهلك الصيني 3% فقط من النشاط الاقتصادي العالمي، في مقابل حصة المستهلك الأوروبي والأميركي التي تبلغ 36%. وهذان الرقمان يوضحان السبب وراء اختلال توازن الاقتصاد العالمي اليوم إلى حد كبير.ولكن من المتوقع بحلول عام 2020 أن تضيف آسيا وبلدان الأسواق الناشئة إلى الاقتصاد العالمي ضعف القوة الشرائية الاستهلاكية الأميركية، بل إن شركات مثل جنرال إلكتريك، وإنتل، وبروكتور آند غامبل، وداو جونز أعلنت بالفعل أن القسم الأعظم من نموها سوف يأتي من آسيا. وبالفعل أصبح العديد من الكوريين والهنود، والشركات المتعددة الجنسيات في آسيا، يمتلكون أغلبية أجنبية في أسهم شركات غربية (بما في ذلك في الولايات المتحدة). والواقع أن هذا المحرك الجديد لنمو الاقتصاد العالمي يفتح أبواب الفرص أمام أميركا لاستغلال طاقتها الإبداعية العظيمة وروح المغامرة التجارية في خلق وظائف جديدة تتطلب مهارة عالية للعاملين في الولايات المتحدة. إن النمو الاستهلاكي الآسيوي- وإعادة التوازن إلى الاقتصاد العالمي- قد يعمل كاستراتيجية للخروج من أزمتنا الاقتصادية. ولكن الغرب لن يستفيد من هذا النمو إلا باتخاذ القرارات السليمة البعيدة الأمد فيما يتصل بالقضايا الاقتصادية الكبرى- ماذا يتعين علينا أن نفعل بشأن العجز، والمؤسسات المالية، والحروب التجارية، والتعاون العالمي؟أولا، لابد أن يتم خفض العجز على نحو يعمل على توسيع الاستثمار في العلوم والتكنولوجيا والإبداع والتعليم. وسوف يتطلب الأمر تعزيز الاستثمار العام والخاص من أجل ضمان أفضل العلوم وأرقى أنظمة التعليم على مستوى العالم.وثانيا، لن يتسنى للغرب أن يستغل الأسواق الجديدة إذا استسلم لإغراءات فرض تدابير الحماية، ذلك أن حظر عمليات الاستحواذ عبر الحدود، وتقييد التجارة، والحياة في ظل حروب العملة، كل ذلك من شأنه أن يلحق بالولايات المتحدة ضرراً أعظم مما قد يلحقه بأي دولة أخرى. ففي القرن الماضي كانت السوق المحلية الأميركية كبيرة ومهيمنة إلى الحد الذي يجعلها في غير احتياج إلى الانشغال كثيراً بقواعد التجارة، ولكن بعد أن أصبحت آسيا على وشك التحول إلى أكبر سوق استهلاكية في التاريخ فإن المصدرين الأميركيين- أكبر المستفيدين المحتملين- سوف يحتاجون إلى التجارة المفتوحة أكثر من أي وقت مضى، ويتعين على أميركا أن تحمل لواء الريادة في الجهود الرامية إلى إبرام اتفاق تجاري عالمي جديد.بيد أن الالتزام بالاستثمار العام والتجارة المفتوحة أمر ضروري ولكنه غير كاف لتوفير الظروف الملائمة للازدهار المستدام. وقد تتلاشى كل الفرص العالمية في العقد الجديد إذا انسحبت كل دولة إلى قوقعتها الوطنية.في عصر آخر، حذَّر ونستون تشرشل العالم، الذي كان آنذاك يواجه أخطر التحديات على الإطلاق، من التردد والانسياق والميوعة والعجز، ونصحه بالعزيمة والصلابة والثبات والقوة. وفي اعتقادي أن العالم اليوم لديه قادة وزعماء في قامة تشرشل ومنزلته، وإذا عملوا معاً فلن يجرفنا التيار.ويتعين على أميركا الآن أن تحمل لواء الريادة وأن تطالب العالم بالموافقة على خطة حديثة على غرار خطة مارشال تعمل على تنسيق التجارة وسياسات الاقتصاد الكلي لتعزيز النمو العالمي. كما يتعين على أميركا أن تعمل مع الرئيس الجديد لمجموعة العشرين، الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي، من أجل تنشيط الإقراض الخاص من خلال بناء اليقين العالمي حول المعايير والقواعد التي يتعين على البنوك أن تحترمها.كما يتطلب الأمر أيضاً الاتفاق على أن تكون خطة خفض العجز المتعددة السنوات التي يتبناها كل بلد مصحوبة بالجهود اللازمة للتعجيل بالإنفاق الاستهلاكي في الشرق والاستثمار الموجه في التعليم والإبداع في الغرب، ولابد أن تعمل هذه الخطة على تشجيع الصين وآسيا على القيام بما يصب في مصلحتها ومصلحة العالم: الحد من الفقر وتوسيع الطبقة المتوسطة، ويتعين على الغرب أن يعجل بتنفيذ الإصلاحات البنيوية حتى يصبح أعظم قدرة على المنافسة ويضمن في الوقت نفسه ألا تتسبب تدابير ضبط الأوضاع المالية (التقشف) في تدمير النمو.إن بلدان مجموعة العشرين قادرة من خلال العمل المشترك ليس فقط على إحداث تغيير هامشي، بل الوصول بمعدلات النمو إلى نسبة تتجاوز 5% بحلول عام 2014، وبدلاً من الوصول إلى طريق مسدود بشأن العملات والتجارة والتقهقر إلى الملاذ الوهمي المتمثل في تدابير الحماية، فبوسع العالم أن يحقق نمواً تعادل قيمته 3 تريليونات دولار ويكفي لخلق 25 مليون إلى 30 مليون وظيفة جديدة، وانتشال 40 مليون إنسان أو أكثر من براثن الفقر.* غوردون براون ، رئيس وزراء المملكة المتحدة السابق.«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»