ربما شكّل رتم الحياة المتسارع، وضغوطها القاسية على الإنسان الفرد في المجتمعات الغربية الرأسمالية، دافعاً أساسياً للبحث عن نمط جديد من التواصل الاجتماعي، ينقذ الإنسان من سياط وحدته وعزلته، وطنين صمته، ويكون متنفساً له، يؤمن له شيئاً من الألفة، والوصل مع الآخر، أياً كان هذا الآخر، ويرد عليه بعض صوتٍ ولو كان عبر كلمات قليلة.
التفكير في هذه الحاجة، جاء مقترناً بالبحث عن طريقة جديدة، بعيداً عن المتعارف عليه، في الخروج والانتقال في المكان والزمان، للقاء الآخر بشكل مباشر، وبذل الجهد وصرف المال والوقت لتأمين مستلزمات هذا اللقاء، وهكذا راح بعض المشتغلين في علوم الكمبيوتر، ينظرون في الإمكانات الهائلة والرهيبة التي تقدمها ثورة المعلومات والاتصال، وشبكة الإنترنت لإنسان العصر، وإمكان الاستفادة منها وتسخيرها لخدمة فكرة وصل الإنسان بأخيه الإنسان.ولأن حاجة الفرد لإشباع عطش روحه وعذاباتها لصداقة الإنسان تتعاظم كلما زادت الحياة تقدماً تقنياً وتعقيداً، فلقد ولدت فكرة إمكان تكوين مجتمعات افتراضية، وهي افتراضية لأنها ليست مكشوفة على معادلات لقاء الواقع الحياتي المعيشي، وكون علاقاتها تنشأ، في الفضاء، عبر الوصل الإلكتروني، وليس من خلال اللقاء الإنساني المباشر، وهذا يمنحها قدراً كبيراً من التمويه في الخصائص الشخصية، ويبقيها وصلاً افتراضياً محضاً، وهو بالضرورة يختلف عن الوصل الإنساني الحي والمباشر.إن هذه العناصر مجتمعة، كانت الحاضنة الاجتماعية والتقنية لولادة ما بات يُعرف بشبكات التواصل الاجتماعي، والمجتمعات الافتراضية، وأشهرها فيس بوك «face book»، وكذلك تويتر «twitter»، وهذه العناصر عينها، حددت الميثاق لكل تجمع، وكيف أن السرية وحرية القول واحترام رأي الآخر، هي الأسس التي تقوم عليها هذه التجمعات.ولأن العالم، على أرض الواقع، يحيا حقيقة «القرية الكونية»، فسرعان ما انطلقت هذه الشبكات العالمية الساحرة، لتخترق الحدود والحجب المحلية لكل مجتمع، وتغدو الشكل العصري الأفضل للتواصل الإنساني في ما بين البشر، لكن هذا بالضرورة يستوجب الوقوف أمام شروطها وأهدافها الإنسانية الطيبة، ويتطلب أيضا العمل وفق أصولها.إن أوضح ما تمخضت عنه هذه التجمعات، هو إطلاق حرية القول، وأن يكون ذلك بكلمات قليلة، وكأن الاقتصاد في اللغة، هو الشكل الأمثل للوصل الإنساني في عصرنا الراهن، وكأن ثورة الاتصال والمعلومات تقول بتقنين حكي الإنسان، المفطور على شهية الحكي، وأن يكون محدد الهدف، وأن يدرك حاجته ويعبر عنها بكلمات واضحة وقليلة، فلا مجال لاستطرادات واسعة، ولا داعي لست كلمات إذا كان بالإمكان قول الجملة بثلاث، فاللغة تتمثل روح العصر، وروح العصر عمادها الدقة والاختصار.علينا أن نكون أبناء لحظتنا الإنسانية الراهنة، وأن نشارك العالم لغته، لذا علينا أن نتعلم كيف نقول آراءنا ومشاعرنا بأقل الكلمات، وأن ننتقي كلمات دقيقة قادرة على التعبير عما نريد، متمتعين بكامل حريتنا بحدودها الرصينة، دون أن نمسّ حرية الآخر، أو نؤذي مشاعره، وقبل هذا وذاك علينا أن نعي أن هذا كله هو وصل افتراضي، لا يمكنه، بأي حال من الأحوال، أن يكون عوضاً عن الوصل الإنساني المباشر والحميم.
توابل - ثقافات
الوصل الافتراضي
10-05-2011