ما أعذب الحكمة على النفس حين تأتيك من حيث لا تتوقع، بهذه الحلة البسيطة المتواضعة، بلا بهرج ولا تكلف ولا تصنع. كانت دقائق معدودة قضيتها مع ذاك العامل الإيراني البسيط في مظهره وكلماته، العظيم في حكمته وبصيرته، دقائق جعلتني أستعيد تركيزي على كثير من الأمور، فشكرا جزيلا حجي علي! استمعوا لبسطاء الناس، فإن الله قد يجري من الحكمة على ألسنتهم ما لا تتوقعون

Ad

***

لعلكم تذكرون أني كتبت قبل أشهر عدة مقالاً بعنوان «لقاء مع الحسين بن علي»، وهذه المرة سأكتب عن لقائي بعلي نفسه!

كنت سأبدأ الحكاية قائلا إنه وفي صبيحة يوم تقليدي، لكن الحقيقة غير ذلك، فلست من أصحاب الصباحات التقليدية، وحين أشعر بأن اليوم متجه لأن يسير بوتيرة متثاقلة نمطية، سرعان ما أجد له «تصريفة» تخرجه عن مسار «السكة الحديد»، وتعيده إلى «رشده»، فتذهب به إلى مسار أكثر إثارة!

كان يوماً مثيراً في الحقيقة، ابتدأ بنقاش حيوي في «تويتر»، حول موضوع ما، وما أكثر الموضوعات الحيوية هناك، خرجت بعدها لقضاء بعض مشاغلي. كنت يومها بحاجة إلى عامل ينقل بعض الحاجيات الثقيلة من مكان إلى آخر، فقصدت مكاناً يتجمع فيه العمال الذين يعملون بالأجرة اليومية.

التقيت في البداية بأفغاني، تلكأ وتردد عن قبول المهمة لسبب ما، وكان بجانبه «علي» الذي لم يفوت ثانية واحدة، قبل أن أراه جالساً بجانبي في السيارة، وعلي هذا عامل إيراني في أواخر الخمسينيات من عمره كما قدّرت حينها، من أولئك الذين يبحثون عن رزقهم اليومي بالعمل في كل المجالات التي تعتمد على المقدرة العضلية في المقام الأول.

وما إن تحركت السيارة، حتى انطلق علي يتحدث بلا هوادة، بعربيته المكسرة المضمخة بلهجته الإيرانية القحة، مبدياً استغرابه من تلكؤ وتردد صاحبه الأفغاني الذي كان جالساً معه قبل قليل، وكيف أنه كان يشتكي بنفسه من قلة «الشغل»، في حين أن علي كان يصر على أن الشغل موجود وكثير.

بعبارات بسيطة بمفرداتها، مكسرة في صياغتها وتركيبها، تحت قهر حاجز اللغة، ولكن عميقة في معانيها ومراميها، علمني علي بأن الرزق لا يأتي إلى شخص جالس يتكبر على الفرص التي يسوقها الله له، وأن كثيرين من البشر يبحثون عن رزقهم عند البشر، في حين أن الرزق أولاً وأخيراً من عند الله!

وعلمني علي أن على الإنسان أن يجري أموره في ترتيبها الصحيح، فلا يصح استعجال الحصول على الرزق قبل بذل الأسباب والصبر عليها، تماماً مثلما أنه لا يصح أن يلج الإنسان باباً قبل أن يطرقه، وعلمني كذلك، وهو يطرح مثالاً من واقعه، أهمية التخطيط السليم، عندما أخبرني أن على العامل أن يعرف أولاً كم هي أجرة معداته، وكم ساعة يستطيع أن يشتغل في اليوم، وبذلك يستطيع أن يقدر مكسبه اليومي، فيسعى لتحقيقه. وعلمني بعدها كيف أن على الإنسان أن يوفر شيئاً من المال يواجه به أيامه الصعبة، بينما بعض الناس حين تمتلئ بطونهم شبعاً يتخلصون من بقايا الخبز التي على موائدهم، وينسون أنهم قد يجوعون في الغد.

وعلمني علي أيضا أن على الإنسان أن يحوز في الأول والآخر على الرضا والقناعة بما يقسمه الله له من رزق بعدما يبذل كل الأسباب المتيسرة، ليصل إلى السعادة وراحة البال في هذه الدنيا، لأنه مهما بنى وشيّد وتملك فيها، فلابد أنه سيرقد في قبر تاركاً وراءه كل شيء.

ما أعذب الحكمة على النفس حين تأتيك من حيث لا تتوقع، بهذه الحلة البسيطة المتواضعة، بلا بهرج ولا تكلف ولا تصنع. كانت دقائق معدودة قضيتها مع ذاك العامل الإيراني البسيط في مظهره وكلماته، العظيم في حكمته وبصيرته، دقائق جعلتني أستعيد تركيزي على كثير من الأمور، فشكرا جزيلا حجي علي!