قم المقدسة على خط المواجهة
مرة أخرى تستعيد طهران عافيتها انطلاقا من مدينة قم المقدسة، وكأن التاريخ يعيد نفسه من جديد، فثمة من يتحدث عن «خمينية» جديدة أخذت تتحرك في عروق الحوزة الدينية ومجتمع النخبة الإيراني منذ أيام، وعلى مدى الساعة على أنغام لقاءات المرشد الأعلى للثورة مع كبار مراجع قم وعوائل شهدائها وحشود جماهيرها، والتي ترافقت مع خطابات أعادت الحياة مرة أخرى إلى ما بات يعرف بـ»الإسلام السياسي».
يذكر أن قائد الثورة الإمام السيد علي الخامنئي قد بدأ بزيارة تاريخية لمدينة قم المقدسة قبل أيام، ترافقت مع استقبال جماهيري حاشد قل نظيره، قارنه العديدون مع الاستقبال التاريخي الذي حصل للإمام المؤسس للثورة الإمام الراحل آية الله الخميني لدى عودته من باريس إلى طهران عشية انتصار عام 1979م.ولعل الحركة التي بدأت تدب في كل شرايين الدولة والمجتمع منذ أيام كانت بسبب الأنباء المتواترة القادمة من هناك، والتي تؤكد تمكن مرشد الثورة الإمام السيد علي الخامنئي من إعادة لمّ شمل الحوزة والقيادة الدينية من أعلى مستوياتها إلى أدناها، في حركة وحدوية لافتة؛ ما دفع معارضي النظام الذين طالما راهنوا على انقسام قم كخشبة خلاص لهم، اعتبارها بمنزلة «القشة التي قصمت ظهر البعير».من جهة أخرى فإن الأنباء التي نشرها محافظ البنك المركزي الإيراني يوم الخميس الفائت والتي تفيد بـ»وجود ما يزيد على المئة مليار دولار في احتياطات الخزانة الوطنية وما يوازي نحو عشر سنين من حاجة البلاد من احتياطي الذهب» دفعت بالمراقبين لمجريات تأثير العقوبات في إيران يتأكدون من عبثيتها أكثر من أي وقت مضى، وربما كان هذا واحدا من العوامل التي دفعت برئيس وزراء إيطاليا للتصريح: بـ»أن العقوبات الدولية على إيران ليست ذات تأثير والأجدى اعتماد وسائل تقارب مع طهران أكثر من أساليب عزل» كما نشرت مواقع إلكترونية عديدة.وفي كلتا الحالتين ثمة من يؤكد أن ما يحصل في هذين الاتجاهين من تطورات على الساحة الإيرانية إنما يعيد ترتيب الوضع الداخلي الإيراني بشكل يجعل من الصعب على الغرب إن لم يكن من المستحيل أن يقهر إرادة صاحب القرار الإيراني، أو أن يجعله ينحني أمام عملية تضييق حلقة الحصار الاقتصادي عليه من الخارج، خصوصا أن التعليمات الصادرة بهذا الخصوص من القيادة العليا واضحة لا لبس فيها: «استعدوا لقيام اقتصاد مقاوم وعمليات التفاف واسعة على العقوبات لجعلها أثرا بعد عين» كما جاء في إحدى خطب الإمام السيد علي الخامنئي قبل مدة قصيرة. وإذا ما أضفنا الانتصار الدبلوماسي اللافت الذي سجلته القيادة الإيرانية على الساحة الإقليمية لاسيما ذلك الجانب المتعلق بالزيارة التاريخية للرئيس أحمدي نجاد إلى لبنان وما تركته من أثر في وزن إيران الإقليمي وامتداد نفوذها «مظهرا» على شواطئ المتوسط، فإن من الصعب إن لم يكن من المستحيل بعد كل ذلك أن يبقى المفاوض الإيراني الذي يستعد لجولة جديدة من المفاوضات مع مجموعة (الخمسة زائد واحد) على نفس الدرجة من الوزن والثقل.على أي حال فالعارفون ببعض خفايا ما يحصل بين طهران وقم يعتبرون المحطة الأخيرة لحركة القيادة الإيرانية العليا بمنزلة تتويج لدبلوماسية داخلية وخارجية قادها ولايزال يقودها الإمام الخامنئي شخصيا في كل محطاتها الداخلية والخارجية، وهو يعد لمفاجآت جديدة على المستوى الخارجي قد تكون فلسطين إحدى محطاتها التاريخية، مستندين في ذلك إلى حديث خاص تم إبلاغه في وقت ليس ببعيد على مستوى الخواص تم التأكيد فيه: «أن المنازلة الكبرى بين العدو الصهيوني وقوى المقاومة والممانعة لاشك واقعة وأن على الجميع أن يستعد لها لأنها ستكون الحاسمة والتي ستغير وجه المنطقة» على حد نقل أولئك الخواص.أيا تكن التكتيكات أو الأساليب التي يتبعها الغرب مع طهران في عملية ما يسميه هو «سياسة العصا والجزرة» فإن كل مطلع على أحوال الوضع الإيراني من الداخل بات يعلم جيدا أن أثر تلك السياسة العرجاء لن يزيد النظام الإيراني ونخبه وجماهيره إلا مزيدا من الصلابة والصرامة، ومزيدا من الالتفاف حول صانع القرار الوطني بعد أن استطاع أن يستنفر الذاكرتين الدينية والقومية ويحشدهما في إطار معركة مقدسة صار عنوانها «قيامة إيران الإسلامية الكبرى».لا، بل ثمة من يذهب إلى أبعد من ذلك رابطا بين ما يحصل في إيران الداخل لاسيما على المستوى الديني والحوزوي تحديدا، وبين نهضة وتنامي الإسلام السياسي على مستوى الإقليم عموما ولاسيما على مستوى نموذج «حزب الله» اللبناني المتحالف استراتيجيا مع كل من دمشق وطهران، ليخلص بأن ثمة مشروعا نهضويا إسلاميا مشرقيا تعمل طهران بكل ما أوتيت من قوة ومن رباط الخيل على تكريسه وبلورته ليشكل نواة «مشرق جديد»، ليقف حائلا بوجه «الشرق الأوسط الجديد» الأميركي الإسرائيلي والمعتمد لدى بعض الدوائر الإقليمية عنوانا لحروب فتنوية متنقلة مطلوب وأدها في مهدها مهما كلف ذلك من ثمن.وطبقا لما يتواتر من قم التي تحولت إلى عاصمة مؤقتة لهذا المشروع في الأيام القليلة الماضية وإلى حين انتهاء إقامة المرشد الأعلى هناك، فإن هذا الأمر قد تم تداوله بالتفصيل والدقة اللازمة مع كبار المراجع الدينيين والنخب الحوزوية ليكونوا في صورة ما تعد له طهران من استراتيجية إقليمية كبرى لاسيما في مجال «الحرب الناعمة» المعتمدة من جانب أصحاب مشروع «الشرق الأوسط الجديد» الآنف الذكر.* الأمين العام لمنتدى الحوار العربي - الإيراني