إن التنوع في أغلب الأشياء في هذه الدنيا، إن لم يكن جميعها، هو أمر صحي جيد، وإن قبول الناس لوجود هذا التنوع، وقبولهم لحق الآخرين في اختيار ما يروق لهم، دون تعدٍ على غيرهم، هو العامل الأساس لسكينة أي مجتمع وحركته الإيجابية نحو استقرار أهله وخيرهم.

Ad

منذ سنوات، وحين كنت أنظر إلى الأمور من زاوية تختلف عن الزاوية التي أنظر منها اليوم، كنت حين أحضر خطبة الجمعة عند إمام يقضيها بالحديث حول أمور العبادات أو المواعظ العامة، يعتريني الضيق وربما الغضب، وتتملكني فكرة أن هذا الخطيب أضاع وقتنا في الحديث عن هذه الشؤون «الباردة» في حين أن الناس والمجتمع والبلاد، بل العالم بأسره، تعصف بهم العواصف الحارقة، وتطحنهم المشاكل المشتعلة!

ودارت الأيام، ودرت معها، وتحركت من الموقع الذي كنت أنظر منه إلى سائر الأمور، فاتسعت زاوية رؤيتي شيئاً ما، بعدما أخذت نصيبي من تلك الحرارة، لسعاً وكياً واحتراقاً، فتغيرت فكراً ونفساً، وصرت أتقصد السؤال والبحث عن مساجد من كنت أسميهم خطباء المواعظ الباردة لأصلي عندهم الجمعة، مكتفياً، أو بالأحرى ضجراً، مما في بقية أيام الأسبوع من سخونة وحرارة، وهي التي فيها ما يكفي ويزيد من مصادر الحرارة والسخونة.

صرت أنظر إلى لحظات خطبة الجمعة على أنها استراحة محارب... لحظات يحاول أن ينتقل بها المرء إلى منطقة ظليلة باردة، مبتعداً عن حرارة الهموم وثقل الضغوط اليومية. لحظات يقضيها في التفكر والتأمل الروحاني الهادئ، لتصفية نفسه وذهنه، ومن ثم الاستعداد لمواجهة بقية أعباء الأيام الأخرى من الأسبوع.

صار هذا دأبي دائماً، وظللت مستمراً عليه حتى الساعة، إلا أنني مع ذلك أعدت النظر إلى ذات الموضوع من زاوية أظنها أكثر اتساعاً من سابقتها أيضاً، والحمدلله على هذا العقل الذي لا يريد أن يسكن أو يستقر، فصرت أرى أن هذا التنوع في أصناف خطباء الجمعة وفي طرق طرحهم وأساليبهم واختيارهم لموضوعاتهم، هو من قبيل التنوع الإيجابي في حقيقة الأمر، وذلك لأن الناس (الجمهور)، هم من مشارب شتى تماما شأنهم في ذلك شأن الخطباء الذين هم من نوعيات وأجواء وأهواء مختلفة. لهذا فلكل خطيب أسلوب وموضوع، عشاق ومريدون، ومثلما أسعى إلى البحث عن الخطب الهادئة الروحانية وأتقصدها في تلك الدقائق المعدودة من يوم الجمعة، لامتلاء بقية أيام أسبوعي بمصادر الحرارة والإشعاع الساخن، فإن غيري قد يكون على عكسي، وأنه ممن يبحثون عن الحرارة والسخونة والاشتعال في ذات الدقائق، إما لأن بقية أيام أسبوعه خالية منها، وإما لأنه ممن يستطيبون هذا النوع من الموضوعات طوال الوقت، وإما أنه ينظر من نفس الزاوية التي كنت أنظر إليها للأمر منذ سنوات!

أعتقد أن التنوع في أغلب الأشياء في هذه الدنيا، إن لم يكن جميعها، هو أمر صحي جيد، وأن قبول الناس لوجود هذا التنوع، وقبولهم لحق الآخرين في اختيار ما يروق لهم، دون تعدٍ على غيرهم، هو العامل الأساس لسكينة أي مجتمع وحركته الإيجابية نحو استقرار أهله وخيرهم. وحين يبدأ رفض وإلغاء حق الآخر في الاختيار، سينسحب الأمر ويتطور حتى يصل إلى إلغاء ورفض الآخر بالمطلق، فالخيار هو المختار.

إدراك هذه الصورة، والاقتناع بها والتفاعل في داخلها، في قناعتي هو مدخل كبير ومهم لحل مشاكل أي مجتمع، كائناً ما كان شكله وهيئة عناصره.

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء

يمكنك متابعة الكاتب عبر الـ RSS عن طريق الرابط على الجانب الايمن أعلى المقالات السابقة