بلا شك، قسّم الخطاب الأخير للرئيس حسني مبارك المقاومة المصرية إلى حد ما، وسبب التقسيم لا يعود إلى قناعة بما قاله الرئيس، فالأغلبية الساحقة، إن لم يكن الجميع بلا استثناء، تعلم أن نوايا الرئيس مبارك بعدم الترشح أو الدفع بنجله للترشح إنما هي نوايا تشكلت على وقع هدير الجماهير التي اكتسحت شوارع مصر بأنحائها في تسونامي بشري يحيي رومانسية تاريخية في القلب لشعوب ثارت وتوحدت، وما أصعب أن تتوحد الملايين على فكرة ما لم تكن جبارة في مثاليتها وعظيمة في مبدئيتها.
سبب التقسيم، في اعتقادي، يعود للإرهاق البدني والفكري الذي يصيب الشعب بعد ما يقرب من أسبوعين من التظاهر المضني نفسياً والخطير بدنياً والذي ذهبت ولا تزال ضحايا كثيرة ثمناً له. يرى البعض في وعود الرئيس مبارك انتصاراً كاسحاً «مقارنة» بالوضع الذي كان، ومشكلتنا في العالم العربي هو أننا دوماً ما نقيم هذه «المقارنة» مع الأوضاع الأسوأ عوضاً عن الأفضل، وكأن أفضل ما نصبو إليه هو أحسن الأسوأ، وقد تكون أسباب تواضع تطلعاتنا عائدة لقرون القهر التي خفضت سقف الأحلام كثيراً، وقد تعود إلى حالة من تقديس القادة مما يجعل من محاسبتهم وتوقع الإصلاح الكامل منهم ضرباً من المبالغة والتشدد تجاههم، فنحن ننسى أن هؤلاء القادة هم بشر مكلفون وليسوا آلهة، وأن التشدد في محاسبتهم واجب ينادي به رفعة مراكزهم القيادية، فعلى قدر المسؤولية تكون المحاسبة. نلوم أنفسنا عندما نطالب «بالكمال القيادي» وكأننا لسبب ما لا نستحقه، ونتهم تحركاتنا بالعناد والمبالغة عندما نصر على تحقيق العدل الكامل أو إزالة الظلم بتمامه فنشعر بالعيب لتعسفنا مع «المتعسف»، لسبب ما نعتقد أننا نستحق شيئا من الظلم، وأننا يجب أن نعيش مع درجة من الطغيان وكأن هذين هما قدر الشعوب العربية التي تعتقد أن هذا «صليبها» الذي عليها أن تحمله لتكفر عن سيئاتها، فالحاكم الطاغي امتحان للشعب، فكيف سنكون دون هذا الامتحان؟ استمرأنا الظلم حتى بات شعار «يا بخت من نام مظلوم وليس ظالم» هو ديدن حياتنا الذي يصرخ بنا دائماً لعدم «التمادي» في المطالبة بحقوقنا. ولكن ليس الجيل المصري الجديد، فعلى الرغم من الانقسام الذي أحدثه خطاب الرئيس، فها هي الشوارع لا تزال هادرة بأصحابها، وها هم يعلنون أنهم لا يريدون الالتقاء في منتصف الطريق بعد أن مشوا عقوداً في آخره. يعلن المصريون اليوم أنهم يريدون طليعة الطريق، يريدون تغييراً دون مساومة أو تنازلات، وهو تغيير مستحق بعد الحالة «الاستاتيكية» التي جمدتهم سنوات طوال، وهؤلاء مصريون، هؤلاء هم رواد التغيير، فالعجب كل العجب ليس في إصرار اليوم، بل في سكوت أمس طال وتمدد حتى أظلم؛ ليس فقط على القلوب المصرية، بل العربية بعمومها، ولنتذكر دوماً أن أي خير أو إنجاز للحاكم هو واجبه من حيث موقع مسؤوليته، وأن أي خطأ منه يجب أن يؤخذ به حساباً صارماً لا يخففه إنجاز أو بطولة سابقة، فهذا هو الثمن الذي يدفعه الحاكم للقوة والسلطة اللتين يضعهما الشعب بين يديه، إنجازاته واجبة وأخطاؤه قاتلة ثمنها الوحيد هو فقدان هذين «الهبتين». للرئيس مبارك موقف طيب من الغزو العراقي للكويت، لكنه موقف الحق المستحق، يشكر عليه من حيث إنه تبينه، ولكن هذا الموقف المتوقع لم يطعم ويكسُ ويوفر وظائف ويحقق العدل ويوفر الفرص الحقيقية العادلة للنظام الجمهوري كي يتفعل في مصر، هو موقف مضيء سيسجله التاريخ لسياسة الرئيس الخارجية وستطفئه آلاف المواقف الأخرى للسياسة الداخلية. علينا أن نتبين الفرق ولا نحمل المنة للأبد لموقف مستحق فتهبط غشاوة هذه «المنة» على عيوننا فلا نعود نرى المعاناة والظلم وقهر السنوات الطوال التي ما كان لشعب أن يتحملها تحت أي ظرف أو مسببات. عصر جديد وحلم جديد، تقدم الزمن فلمَ لا تكبر أحلامنا معه؟ تغيرت الدنيا فلمَ لا تتغير طموحاتنا وينمو شعورنا بكراماتنا واستحقاقاتنا كشعوب؟ القرن الجديد هو قرن الإنسان وليس السلطان، فلنعشه لأقصاه دون شعور بتأنيب فقط لمطالبتنا بما نستحق. كفانا لعب دور الضحية، لقد أصبح ممجوجاً غير قادر على استدرار الدموع والتعاطف، غاية ما يستدر هو الشعور بالشفقة المهينة، وتلك أكلت قلوبنا. إصرار المصريين فرصة حياة للعالم العربي بأكمله، ونعم، نحن نستحق الحياة، فلنسعَ إليها دون وجل من تأنيب ضمير. كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء يمكنك متابعة الكاتب عبر الـ RSS عن طريق الرابط على الجانب الايمن أعلى المقالات السابقة
مقالات
متى تكبر أحلامنا؟
05-02-2011