سبق أن كتبت مرات عدة أن واحداً من أهداف الإرهاب المستمر في العراق، منذ سبع سنوات حتى الآن، إثارة الفتنة الطائفية في العراق، وإشعال نار الحرب الأهلية فيه. وهي الحرب الكفيلة بتدميره لسنوات طويلة، كما حصل في لبنان (1975-1990) الذي مازال يعاني تداعيات وآثار تلك الحرب الأهلية، حتى الآن.

Ad

حقيقة علينا أن نعترف بها

وسواء أغضب الكلام التالي كثيراً من القراء، أو نال رضاهم، فالحقيقة أن القوات الأجنبية في العراق، وفي مقدمتها القوات الأميركية، كانت بمنزلة صمام الأمان والمانع النافع، في وجه الحرب الأهلية. وأميركا بكل بساطة، قامت بمحاربة الإرهاب في العراق ما أمكنها ذلك، ودفعت مئات المليارات من الدولارات، وخسرت أكثر من 4400 جندي، لكي تُبعد العراق عن شبح الحرب الأهلية المدمرة. ولعل هذين الرقمين، هما أكبر رقمين في التاريخ البشري، دُفعا للحيلولة دون نشوب حرب أهلية.

بينما تُرك لبنان عام 1975 لنار الحرب الأهلية، دون جهود عربية أو غربية، للحيلولة دون نشوب الحرب الأهلية اللبنانية، ساق التاريخ والظروف السياسية المختلفة أميركا وبريطانيا لغزو العراق وإسقاط النظام البائد، وللحيلولة دون نشوب حرب أهلية نتيجة لذلك. فقد كان من المتوقع نشوب الحرب الأهلية العراقية بعد سقوط النظام البائد، الذي كان يتسلح بالسيف السُنّي، ويقطع به رؤوس الشيعة، ورؤوس السُنَّة والشيعة الأكراد كذلك.

فرصة ذهبية ضاعت

وهنا نستطيع أن نقول إن العراق- لسوء خطير في نُخبه السياسية- أضاع على نفسه فرصة ذهبية ثمينة لبناء العراق الجديد، أثناء وجود القوات الأميركية طوال السنوات السبع الماضية.

فبدلاً من أن يتفرَّغ السياسيون العراقيون لبناء العراق الجديد وإرساء قواعده المكينة، راحوا يتسابقون على نهب ثرواته والهروب بها خارج العراق، فقالت منظمة الشفافية الدولية إن الفساد الذي شهده العراق طوال السنوات السبع الماضية لم يشهده التاريخ البشري كله.

وبدلاً من أن يقوم السياسيون العراقيون بتدعيم الديمقراطية الوليدة في العراق، والاعتناء بهذه الفسيلة الجديدة التي حرص الأجانب على غرسها في العراق، ثم تعميمها في أنحاء العالم العربي كافة إذا نجحت التجربة العراقية، راحوا يتنافسون على الكراسي، ويئدون الديمقراطية بآليات ديمقراطية (صناديق الاقتراع)، كما قال المفكر الكويتي خلدون النقيب، في كتابه "آراء في فقه التخلف".

وتلك الفرصة التاريخية الذهبية، لن تتكرر للعراق ولا لغير العراق من الدول العربية.

فما الجهة أو الدولة القادرة على دفع تلك المئات من مليارات الدولارات، والتضحية بآلاف الجنود لزراعة فسيلة الديمقراطية في العراق، وحمايته من نشوب حرب أهلية، ومحاربة الإرهاب فيه، وقيام الجنود الأميركيين بتدريب الجيش ورجال الأمن العراقيين، والقيام بخدمات مختلفة.

احتمالات الحرب الأهلية العراقية

تُجمع كتب التاريخ البشري على أن الحروب الأهلية تنشب في بلدان يكون فيها جماعات مختلفة من السكان. وكل جماعة ترى في الجماعة الأخرى عدوها البارز، وترى أنها الأحق بتولي مقاليد الحكم، والاستئثار بالسلطة. كما تُجمع كتب التاريخ البشري على أن أسباب الحروب الأهلية قد تكون سياسية، أو طبقية، أو دينية، أو عرقية، أو إقليمية، أو مزيجاً من هذه العوامل. وكادت الحرب الأهلية العراقية تنشب بعد سقوط النظام البائد لأسباب سياسية منها:

1- سيطرة السُنَّة على مقاليد الحكم والجيش والأمن، ومحاولة الشيعة استعادة هذه المقاليد والسيطرة على أجهزة الجيش والأمن.

2- عدم حسم العراق لنفسه، هل هو دولة عَلْمانية تفصل بين الدولة والدين؟ أم هو دولة دينية يتولى شؤونها رجال الدين، كما هو الحال في إيران، وهو ما يرغب فيه جزء كبير من أحزاب العراق الشيعي كما يرغب فيه جزء آخر من أحزاب العراق العربي السُنّي؟ أم أن العراق لم يحسم أمره بعد في هذين الخيارين، ويحتاج الى وقت كافٍ لحسمهما؟

3- إن من طبيعة الحروب الأهلية أن تنشب بعد سقوط نظام سابق، لاسيما أن النظام العراقي السابق كان يمثل فئة دينية معينة فقط، وهم العرب السُنَّة.

4- مازال معظم العرب ومنهم العراقيون، يميلون الى العنف في حلِّ خلافاتهم، خصوصاً السياسية منها. ومن يقرأ الجزء الخامس، بقسميه الأول والثاني، من كتاب المفكر الاجتماعي علي الوردي "لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث"، يُدرك بما لا يدع مجالاً للشك أن المجتمع العراقي- كأي مجتمع عربي آخر- مازال مجتمعاً بدوياً صحراوياً بعلاقاته مع الآخر خصوصاً، إذ القوة والعنف هما الوسيلتان الناجعتان للحصول على المُراد، وتحقيق الهدف.

عوامل تحول دون نشوب حرب أهلية

ليس العراق في كوكب آخر غير الأرض، ولم يعد معزولاً عن العالم ومجريات السياسة منذ عام 2003. وأهميته الاقتصادية والثقافية والجغرافية والتاريخية تُجبر الدول العظمى على الاهتمام به اهتماماً كبيراً. والضمانة الكبرى في العراق، ضد نشوب حرب أهلية، تتأتى من علاقة العراق الوثيقة والمفصلية بأميركا، رغم الانسحاب العسكري الأميركي الأخير من العراق، الذي لا يعني شيئاً كثيراً في ظل الانتشار العسكري لأميركا في الخليج، أرضاً، وجواً، وبحراً. والقوة العسكرية التي غادرت العراق بالأمس، يمكنها أن تعود إليه في أيام معدودة- إذا دعا الداعي- لتحول دون نشوب حرب أهلية بين الأطراف المتنازعة. زيادة على ذلك، فإن الأطراف المتنازعة والمؤهلة لحرب أهلية، تعلم علم اليقين، أنه لا رابح مضموناً في هذه الحرب، في ظل سيطرة قوى إقليمية سُنيّة وشيعية على القرار العراقي.

* كاتب أردني