توفي صباح أمس وزير العمل السعودي الدكتور غازي القصيبي عن عمر ناهز 71 عاماً، عاش خلاله حياة زاخرة ومليئة بالأحداث السياسية والثقافية والفكرية. ولعل ما ميز حياته تلك بزوغ نجمه في الشعر في أواسط الستينيات من القرن المنصرم، وبلغت شهرته الأدبية قمتها حين أصدر ديوانه الثالث "معركة بلا راية" سنة 1971.

Ad

وكان القصيبي، إضافة إلى موهبته الشعرية الفذة أستاذاً جامعياً، وإدارياً ناجحاً، تقلد مناصب حكومية قلما تُجمع في شخص واحد، فقد تولى ثلاث حقائب وزارية هي: "الكهرباء والماء"، و"الصحة"، و"العمل"، وكان قبل ذلك سفيراً لبلاده في دول عدة، كما كانت له محاولة مشهورة للوصول إلى منصب مدير منظمة الأمم المتحدة للثقافة والعلوم "اليونسكو" في عام 1999، لكن لم يُسعفه التصويت الأممي في نيل المنصب، فأصدر كتاباً بعد ذلك عن التجربة بعنوان "دنسكو"، يحمل سخرية كبيرة من المنظمة العالمية وأساليب الترشح لمنصبها الأعلى.

يحظى القصيبي بمكانة كبيرة في قلوب أهل الكويت، فقد كانت له مواقف مفصلية صارمة إبّان الغزو العراقي، إذ وقف إلى جانب الحق الكويتي، وكتب سلسلة من المقالات الصحافية بعنوان في "عين العاصفة" نشرت في صحيفة "الشرق الأوسط"، كما نشر قصائد شعرية عديدة بالمناسبة حوّل بعضها إلى أغان وطنية. ويروى عنه قوله في أحد اللقاءات الصحافية أثناء الاحتلال: "واثق من عودة الكويت إلى أهلها، كما أثق ببزوغ الشمس من مشرقها".

ولم تكن حياة الشاعر الراحل تمضي برداً وسلاماً في كل أحوالها، فقد تعرّض لعاصفة من انتقاد رجال الدين وخطباء المنابر في أوائل التسعينيات من القرن المنصرم بسبب قصائده، ومواقفه المدنية والفكرية التي وصفت حينئذ بـ"العلمانية"، ولم يكن سهلاً أن يتحمل كاتب سعودي تلك الحملة الشرسة في حين كانت "الحركات الإسلامية" في قمة نشاطها، من قبل أن تنحرف بعض هذه الحركات وتولّد العنف والإرهاب.

وبالرغم من إصدار القصيبي كتابه المشهور "حياة في الإدارة" الذي يتناول فيه أبرز محطات حياته الإدارية، فإنه بقي مخلصاً للأدب، فقد وجد في الشعر والرواية سلوى للنفس، وتنفيساً للهم، وحظي أول أعماله الروائية بشهرة كبيرة، فها هي "شقة الحرية" 1994 تنفد من الأسواق في غضون أشهر، وتعاد طباعتها مرّات، ومرّات. تتحدث الرواية عن الشباب العرب والطلبة المبتعثين إلى القاهرة في الفترة بين  1948 و1967، ويعود السبب الأكبر لشهرة هذه الرواية إلى ما أُشيع من أنها تتحدث عن شخصيات ثقافية وإدارية مازالت تعيش بيننا. بعد ذلك أصدر القصيبي رواية "العصفورية" التي نالت هي الأخرى شهرة مثيلة، بالنظر إلى نجاح كاتبها في العمل الأول، ثم توالت بقية الأعمال التي من بينها: "سبعة"، و"سعادة السفير"، و"سلمى"، و"أبوشلاخ البرمائي". وأما دواوينه الشعرية فقد اشتهر منها "صوت من الخليج"، و"أشعار من جزائر اللؤلؤ".

وكانت قصائد القصيبي تبلغ شهرة كبيرة فور نشرها أو صدورها في دواوين شعرية، ويعود ذلك إلى ابتعاده عن الغموض ونهج الحداثة والتشتت الذي ينتج عن قصيدة النثر، فقد التزم منذ أشعاره الأولى القصيدة الموزونة المقفاة، حتى وصف في كثير من المراجع بـ"التقليدية"، التي لا تضره في شيء، فقد كان غاية ما يتمناه أن يكتب شعراً يصل إلى قلوب الناس، لا كلمات غامضة تعيش في أبراج عاجية. ويمتلك القصيبي مهارة فائقة في تطويع المفردة الشعرية، وإيجاد الأوزان والقوافي المناسبة، وكان يستقي شعره من واقع بيئته، فنجد الصحراء برمالها، كما نجد أمواج البحر العاتية، لذا فمن غير المستغرب أن يوصف بشاعر "الخليج" الذي خبر كل شبر من أرضه، وتفاعل مع كل شاردة وواردة من قضاياه.

اتسم الشاعر الراحل بحس الفكاهة والسخرية، ولم تخلُ أمسياته الشعرية خاصة تلك التي أحياها في الكويت من قفشات، ومواقف طريفة يحكيها إبّان كان طالباً في جامعة القاهرة، وكذلك ما يصادفه من مواقف طريفة مع أبنائه وأفراد أسرته، ورحلاته المتعددة في نواح مختلفة من أرجاء المعمورة.