نحن نعيش في لحظات صناعة تاريخ، وبالتالي في مراحل صناعة التاريخ تتوارى التفاصيل إلى المقاعد الخلفية.

Ad

أطلق موقع ويكيبيديا على ثورتي تونس ومصر وصف ثورتي التويتر تأسيساً على أن المحرك الأساسي الذي جمع الناس كان التفاعل من خلال التويتر.

من الواضح هنا أن من يستخدم التويتر لا ينتمي إلى فئة المسحوقين الجياع، ولكن أدوات تحريك الجماهير لم تعد الوسائل التقليدية، وهي أدوات لا يبدو أن للأنظمة عموماً قدرة على التعامل معها حتى وإن حاولت تأجير البعض للدفاع عنها وسط تغريد التويتر الحر.

الشاهد هنا أن نظام تونس كما كان يراه ويرغب فيه الدكتاتور السابق قد ولى إلى غير رجعة. كما أن نظام الرئيس حسني مبارك كما نعرفه قبل 25 يناير قد انتهى، حتى وإن استمر بعض ملامحه، فنظام ما بعد 25 يناير هو نظام جديد، وهو في مراحل التشكل والتكوين وستبدو لنا ملامحه قريباً.

فما هي الملامح التاريخية في الانتفاضة والثورة التونسية والمصرية المباركة؟

ربما ان أولها وأهمها أنه أصبح بالإمكان تحديد مكان وزمان الثورة دون الحاجة إلى سرية التحرك، فنحن لم نسمع إطلاقاً بثورة يقوم منظموها بتحديد موعدها علناً ومع ذلك ينجحون فيها إلا في الثورة المصرية، بل إن المنظمين لم يتوقفوا عن التنظيم والقيادة فعادوا مجددا للدعوة إلى التظاهرة المليونية يوم الثلاثاء الأول من فبراير وأطلقوا على الجمعة القادمة «جمعة الرحيل».

أما ثاني الدروس فهو سقوط النظرية القائلة بأن هناك استثناء عربياً يمنع الشعوب العربية من الاقتراب من الحراك الديمقراطي العالمي الذي دفع بالعديد من دول آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية في ركب الديمقراطية.

ويتجلى ثالثها بأن الخروج الشعبي إلى الشارع لتغيير الأنظمة سلمياً أصبح خياراً مطروحاً وواقعياً بعد أن كان ضرباً من ضروب الخيال.

أما رابعها فهو أن احتقار الناس وإهانة كرامتهم والاستهتار بقيم العدالة وتعزيز الفساد قد أصبحت عناوين كافية وحزمة دافعة لتحرك الناس ضد أنظمتهم.

ويتضح خامسها بأن قيمة الأيديولوجيات والعقائدية في شحن الجماهير وتحريكها قد تراجعت، وحل محلها مبادئ عامة في الديمقراطية ومحاربة الفساد وحقوق الإنسان، لتصبح العناوين الجامعة والدافعة لحركة الجماهير.

أما سادسها فقد اتضح أنه أصبح بالإمكان تحريك الثورة وقيادتها افتراضياً من الفضاء ومن أشخاص مجهولين نسبياً متجاوزين الأحزاب التقليدية التي أصبحت تابعة ومستفيدة من حالة لم تخلقها.

أما سابعها وربما من أهمها فهو أن المعادلة الحاكمة في الانتقال من الرغبة والفكرة إلى التنفيذ هي معادلة يحكمها طرفان الأول «شباب الفضاء الافتراضي» والثاني هو الجيش الذي يقرأ الساحة جيداً، ويقرر حماية الحراك الشعبي وعدم التصدي له.

في الرابع من سبتمبر 1989 بدأ حراك شعبي في ألمانيا الشرقية المحكومة حينئذ من الحزب الشيوعي الذي كان يرأسه ايريك هونيكر، والذي أعطى أوامر صريحة للجيش والأمن بإطلاق الرصاص الحي على المتظاهرين. ومع ذلك تحرك المتظاهرون في مدينة ليبزغ ونزلوا إلى الشارع رافعين شعار «نحن الشعب»، وحار الجيش في كيفية التعامل مع تلك الجموع الهادرة فلم يتمكن من القتل الجماعي. حاولت أجهزة المخابرات والأمن الداخلي إدخال مندسين لافتعال العنف وسط المتظاهرين، ولكنها فشلت في إيقاف تصاعد وتنامي الحراك الشعبي.

في 18 أكتوبر اضطر هونيكر إلى الاستقالة. اندفعت المظاهرات السلمية في طريقها لكي تسقط جدار برلين في 9 نوفمبر وبالتالي سقوط ألمانيا الشرقية بنظامها لاحقاً، ومن ثم توحيد ألمانيا خلال سنة واحدة فقط.

ولا داعي هنا أن ندلل على أن سقوط جدار برلين هو الحدث الأهم في العقود القليلة الماضية والذي دفعت رمزيته إلى حراك سياسي دولي لم يتوقف، وجاءت ثماره متأخرة بعض الوقت في مصر وتونس، والحبل على الجرار.

المعادلة التونسية المصرية قابلة للتكرار. وعلى الحكام العرب أن يستوعبوا الدروس قبل أن يكونوا متأخرين عن الركب.

هناك متعة وشغف في لحظات التحول التاريخي، وهي متعة قد لا تتكرر، بل هي لحظية في آنها وفي وقتها، فالقادم لا يعلمه أحد ولا يستطيع أن يتكهن به أحد، هل ما سيأتي سيكون وبالاً على المجتمع أم لا؟ وما هي طبيعة الأنظمة الحاكمة القادمة؟ لا شك أنها أسئلة مشروعة. حتى يأتي ذلك الوقت دعونا نتمعن ونستمتع بحركة مجتمعات كنا نظنها راكدة ونحيي جميع الذين دفعوا بها إلى العلن والسلمية، وأملنا أن ننتهي من كل ذلك بالاستقرار والرخاء والأمن والعدل والمساواة والكرامة للشعبين التونسي والمصري العزيزين.