أستودع الله في بغداد لي قمراً (4)

نشر في 12-01-2012
آخر تحديث 12-01-2012 | 00:01
No Image Caption
 فوزي كريم في ظهيرة شتائية مشمسة دخلتُ بغداد. لم تفزعني فيها زحمة نقاط التفتيش العسكرية، ولا الحواجز الاسمنتية، ولا الهياكل العظمية للخراب. ما أفزعني فيها هو هذا التعالي والكبر لغابات النخل، التي تحتل المدينة دون إذن من أحد، فالنخلة سامقة بصورة لا عهد لي بها. ما أفزعني فيها هو هذا الاستلقاء المترف، اللامبالي لدجلة بثياب الشذر الكريم، وأساور الجسور مدى البصر. ما أفزعني فيها هو أنها لا تنقطع عن الايحاء بأنها مدينة لا زمنية، وبأنها لا تكترث لحركة الناس الزمنية. إنها تتحرك عكس اتجاه السير. وإذا همستُ بها مرتاباً: "وما حدث، وما يحدث؟" تجيبني: "حلّق بعيداً عن المشهد تر حقيقةَ المشهد. أنت شاعر! علامات الرضا في عينيك تنم عن هذا التحليق. وإلا فهل امتلأتَ بانتشائك، وقد سميته فزعاً، من أعراض مشاهد نقاط التفتيش، حواجز الأسمنت، هياكل الخراب ونواح الألم البشري؟".

كانت المدينة تتحرك عكس اتجاه عربات السير والناس. هم مسرعون، وهي بالغة البطء. أشعر أنها تتحرك حركة الماء في النهر. عجلة حركتها غير المرئية تتحرك إلى الأمام. في حين يتحرك كل شيء إلى الخلف. احزان الناس لا تملك إلا أن تتحرك إلى الخلف، غير أن المدينةَ تعيش بُحرانَ زمنها المتعالي. تريد أن تقول إن عجلتها لم تتحرك إلى الأمام منذ أكثر من نصف قرن. كان ديدنُها الحركةَ إلى الخلف، وها هي تلاحق حركة مياه النهر لأول مرة.

بعضُ مظاهر الخراب قديمة في بغداد. نقاطُ التفتيش الكثيرة حمايةٌ للناس. انقطاع الكهرباء هيّنٌ في الشتاء. وإذا استحضرتَ متاعبَ الناس من البطالة، والحاجة، والتفجيرات، ورؤية ثروات الناس تُنهب في العلن، فستقول لك المدينة: تصبّر قليلاً على جرحك النازف. في كل مرحلة تحول كبرى، يحدث اضطرابٌ كبير. ينتاب الذين يخسرون فيه فزعٌ يُحيل أصابعَهم مخالبَ، ولمساتها عبواتٍ ناسفة. وينتفض النهّازون أيضاً، يبدأ احتراب المصالح الدنيئة، بلباسها الدنيوي أو الديني. مرحلة التحول عادة ما تكون قصيرة، وكثيفة في أذاها. القتلةُ والسفلةُ نفَسَهم قصير، مقارنة بنفَس النهر الذي ترى!

كنتُ على الجسر العتيق أحدق في ماء الشذر أغذُّ السير باتجاه "شارع المتنبي" في الرصافة، شارع الكتب والقراء. في ركن من مطلع الشارع "مقهى الشابندر" العريقة. يتزاحم فيها الكتّاب: مسنين وشباناً، رجالا ونساءً. عند الباب مكتب صاحب المقهى المُسن، تزين الجدار خلفه ثلاثُ صور فوتوغراف لشبان فقدهم مؤخراً، على أثر انفجار إرهابي داخل المقهى. الدموع التي أتبينها خلف ابتسامته العذبة هي دموع قوة الحياة. قوة العجلة التي تتحرك للأمام لأول مرة.

الصديق الذي التقيته في المقهى قال لي: "انا قانط، لا متشائم". قالها بحذر من يخشى الالتباس. "قانط، لأن مرحلة التحول هذه بالغة القسوة. غير متشائم لأن صدام، برزان، عدي، قصي، عبدة حمود، فدائيي صدام، القوات الخاصة، الأمن، الاستخبارات، الرعب من لحظات أول الفجر، الحذر من ابتسامة الجليس الصفراء، تجنب الاستعارة الملتبسة... كل هذا تلاشى إلى غير رجعة".

"شارع المتنبي" مظهر نادر في عالم الكتب والقراء. مجرى تيار يتحرك عمودياً. مكتبات بالغة الغنى على امتداد جانبيه. بسطات كتب جديدة ومستعملة على الأرض، تحتل الأرصفة وجزءً كبيراً من الشارع. ولا تترك للمارة إلا متسعاً يفي بخطواتهم البطيئة. وفي كل خطوتين تحاولهما تفاجئك تحية، ويحيطك ذراع.

عند باب مكتبة مَسندٌ يعترض الداخلين بالملاحظة التالية: "فدوة أروحْلك دقيقة وأرجع". هذه الدعابة تشبه طائراً خرج تواً من قفص. ما كانت لتحدث في يوم ما سابق لمرحلة التغيير. التقطتُ المشهد بعدسة الفيديو، وبعد حين اقتحم العدسةَ رجلٌ بدشداشة وجاكيتة، ويحيط الرأس بغُترة غبراء. كانت رغبته في أنْ يُصوَّر واضحة. استلطفتُ فضولَه وسألته: "ما اسمك؟" أجاب: "نعال أبو الاصبع." كانت إجابته طبيعية جداً. ما من خيط سخرية، ولا خيط احتقار للنفس. إنسان بين الكتب، لم يعد يتجنب "الاستعارةَ الملتبسة" خشيةَ التأويل.

 

back to top