الأغلبية الصامتة: التيار الفوتوغرافي
التيار الفوتوغرافي لا عنوان له، فهو يخرج من العدم ليحاسب كل من لا يخرج معه ويسير خلفه، ثم يختفي ليعود من جديد حاملا «يافطة» جديدة سرعان ما تنشطر لاثنتين وأكثر، لأن آلية الاختلاف بالرأي مفقودة لديه، ولأن عدد «النشطاء» فيه أكثر من الجمهور.
سقى الله أيام العارضية حينما كان المزاج يتسع لقراءة الصحف الخمس، ويوم الأربعاء «نزيد الشيلة» بقراءة «الطليعة»، صحف الصباح الورقية كانت محملة بالأسرار والدهشة لقرائها، وتظل كذلك حتى المساء محافظة على نضارتها الإخبارية بعكس صحافة اليوم التي تولد ميتة بفضل الإنترنت الذي طغى وتجبر حتى وصل إلى هواتفنا النقالة.كانت الدنيا قبل أكثر من عشر سنوات «غير» إذا ما قورنت بأوضاعنا الحالية، مجلس الأمة «يعيش عمره»، والقوى السياسية حاضرة داخل البرلمان وخارجه، ومؤسسات المجتمع المدني على قيد الحياة، وجامعة الكويت تستطعم ما تبقى من التنافس الفكري بين القوائم الطلابية، وكانت خريطة العمل السياسي واضحة المعالم، فالحكومة مع مؤيديها من ناحية، وتياران ديني وليبرالي يتبادلان اللكمات في المواسم والأعياد من ناحية أخرى.حتى الندوات السياسية تعتبر حدثا مهما، والاستجوابات بسبب ندرتها ينام الجمهور لأجلها عند بوابة مجلس الأمة كأنها أفلام «هاري بوتر» و«تايتانك». الوضع السابق للأمانة لم يكن مثالياً، فإغلاق باب تراخيص الصحف، ودفن طلبات إشهار الجمعيات والنقابات، وعزل المرأة عن المشاركة في الحياة السياسية، وبقاء النظام الانتخابي المعيب، لم تكن تلك أوضاعا تستحق الإشادة، ولكن توجد هناك جزئية غائبة هي أن حجم ممارسة العمل السياسي بالتوازي مع اتساع الفضاء الإعلامي فاق حجم وقدرات المجتمع الكويتي على استيعابها، وهذه الجزئية تحتاج إلى التفكير والتأمل.لا يمكن برأينا المتواضع الخوض في «المشكلة» دون البحث في الأسباب، وأولها أن عدم وجود الأسرة الحاكمة في العملية السياسية كفريق واحد خلق حالة من الاستقطاب وتجميع المناصرين، خاصة داخل مجلس الأمة، وجعلت أدوات الإعلام «المصطنع» إلى ما يمكن إخضاعه بالمال أو المنافع الأخرى، علامة رئيسة في حرب تصفية الخصوم والآراء المعارضة.هذه الحالة من الضعف في أهم أطراف التركيبة السياسية رافقها هزال شديد أصاب القوى السياسية التي غرقت في تكتيكات تحقيق المكاسب الخاصة. لقد كانت الساحة «مستوية» وتنتظر الفرصة كي تنفجر: تقسيم متعمد لقبائل وطوائف على مناطق محددة، وشعور متزايد بعدم العدالة، وتفضيل فئات على فئات، وأخيرا أتت الفرصة، القوى السياسية التقليدية تراجعت وغاب معها الخطاب السياسي المنضبط، وظهر عدد غير متوقع للصحف وقنوات فضائية مرخصة وغير مرخصة «تهذر» بالسياسة، وتمرر ضيوفها المحسوبين على لعبة الصراعات فيما بينها مثل كرة السلة، وما كان يقال في السر بات يقال في العلن وبكل وقاحة.هذا الفراغ الكبير والتوجيه الممول للرأي العام والمكاسب التي تنثر يمينا ويسارا لمن يوالي هذا أو يعارض ذاك، خلق لدينا تيارا جديدا يحاول جاهدا إزاحة كل التيارات القديمة والجلوس مكانها، وقد أطلقت عليه «التيار الفوتوغرافي»، وهو يضم جيشا من «المجاهيل» في عالم السياسة؛ قوامه الفوضى وخطابه الشتم وغايته الشهرة، وما يليها من فرص للوصول نحو الأعلى.في الختام هذا التيار لا عنوان له، فهو يخرج من العدم ليحاسب كل من لا يخرج معه ويسير خلفه، ثم يختفي ليعود من جديد حاملا «يافطة» جديدة سرعان ما تنشطر لاثنتين وأكثر، لأن آلية الاختلاف بالرأي مفقودة لديه، ولأن عدد «النشطاء» فيه أكثر من الجمهور.الفقرة الأخيرة: زوال العلل يعني زوال أعراضها.