«اكذب ثم اكذب حتى يصدقك الناس». عبارة شهيرة لجوزيف جوبلز 1897- 1945 مسؤول دعاية هتلر، ورغم نهايته المأساوية (قتل أطفاله الستة ثم انتحر هو وزوجته) فإن البعض مازال يسير على نهجه الإعلامي، وسواء من اتبعه أو خالفه يدرك الجميع الدور الخطير والمؤثر للإعلام في توجيه الرأي العام وقيادة الشعوب وصنع مستقبل الدول وعلاقاتها.

Ad

الحديث عن الانفلات الإعلامي بعد ثورة يناير وأثره في تداعيات الأحداث يتطلبان أن نتعرف على المشهد الإعلامي قبل الثورة. نقصد بالإعلام الصحف والقنوات التلفزيونية، وسنطلق عليها «منابر».

كانت هناك المنابر الحكومية التي تتبنى وجهة نظر النظام والحزب الحاكم وتدافع عنها، وفي المقابل كانت هناك منابر خاصة– لا يتجاوز عددها أصابع اليدين- تمثل المعارضة «التمثيلية» وعذرا، فقد كانت معارضة مسرحية محسوبة بدقة تامة وبموافقة النظام، ولها الحق في الرفض والنقد في حدود لا تتجاوزها إطلاقا، فالنظام يعلم ذلك وهي توافق عليه وتمارسه، ورغم ذلك نجحت هذه المنابر في جذب الكثير من المشاهدين، فزادت ربحيتها وصار كتابها ومذيعوها نجوما براقة في المجتمع.

بعد ثورة يناير اختلف الوضع تماما، فمع اختفاء النظام انتهى عقد الاتفاق، فتجاوزت المنابر المعارضة الحدود السابق الاتفاق عليها، وأصبحت رافضة لكل شيء، وفي ذات الوقت ظهر الكثير من المنابر الجديدة التي تعيش الحالة الثورية ولا تعترف أساسا بأي حدود، وتطالب دائما بالمزيد.

وبالطبع جذبت هذه المنابر أعدادا أكبر من المتابعين، فشعرت المنابر القديمة بضرورة رفع سقف النقد إلى أقصى درجة ممكنة كي لا تفقد متابعيها، ومع المزاد الإعلامي بين المجموعتين أصيبت المنابر الحكومية بعد الثورة «بالخضة»، فارتبكت ووقعت في مأزق، فمن ناحية لا يمكن أن تغير جلدها كاملا مرة واحدة، فالفكر السابق مازال مسيطرا، خاصة مع استمرار وجود بعض من اتفق على تسميتهم بالفلول في بعض المواقع.

ومن ناحية أخرى تريد أن تجاري المنابر المعارضة كي لا تفقد المتابع تماما، فأخذت ترفض تارة وتوافق تارة، وكان الكثير من الأحداث (حلوان- إمبابة- ماسبيرو...) أرضا خصبة لهذا التسابق الإعلامي، وكان من الطبيعي مع هذا الانفلات الإعلامي ظهور الكثير من الفقاعات السياسية (محلل- خبير- باحث– ناشط)، وحقيقة الأمر أن %90 منهم لا قيمة لهم ولا جدوى لوجودهم، بل يستحق الكثيرون منهم المحاكمة على تهييج وإثارة الشارع.

وسط كل ذلك واصل المجلس العسكري كالمعتاد غباءه السياسي، فلم يفكر ولم يسع إلى وجود منبر إعلامي واحد يشرح وجهة نظره أو يفسر تصرفاته- مع اعتبار أن المنابر الحكومية السابقة مهما رفضت وانتقدت متهمة في كل الأحوال بالانحياز والتضليل- بل إنه لم يبحث عن شخص مدني ذي خبرة إعلامية وقبول شعبي؛ ليكون متحدثا باسمه، وأصر على الوجود بعقيدته العسكرية في ممارسة دوره السياسي، ففقد الكثير من التعاطف الشعبي إلى أن وصل رصيده إلى الصفر تقريبا.

ونتيجة لهذا الانفلات الإعلامي طوال 10 شهور أصيب المواطن بالإحباط و«القرف» والزهد في متابعة كل المنابر الإعلامية، وانصرف إلى «الفيس بوك» و«التويتر» فزادت الأمور تشعبا والاختلافات عمقا والانفلات رسوخا.

ورغم ما في المشهد من قتامة وظلام (إفلات أمني- انفلات إعلامي- أغلبية برلمانية إسلامية نشوى بشهوة الانتصار- أقلية ليبرالية تضخمت الأنا لديها ووقعت في فخها، واعتبرت أنها وحدها من تملك مفاتيح الحل)، رغم كل ذلك وبدون قراءة طالع أو ضرب ودع، كما يحدث في نهاية كل عام أقول بكل صدق إن العام القادم سيكون أفضل، وستكتمل الثورة وستحقق ما تمنيناه جميعا.

أقول هذا مراهنا على قيمة المصري ومعدنه الأصيل وذكائه الفطري وغريزته الوطنية وعشقه لبلده، فهل يصدق توقعي؟ أتمنى.