الجهد والأموال وانشغال المجتمع وعناصره الفاعلة بالانتخابات قد تعطينا انطباعاً خاطئاً أنه من خلالها فقط يتم التغيير في المجتمع، بل إن التفاعل والشد والجذب الذي يصل أقصاه خلال المعارك الانتخابية يشعرك بأن نتائج الانتخابات هي التي ستقرر مصير البلاد والعباد. واقع الأمر هو أن عملية الإصلاح والتغيير هي عملية مجتمعية واسعة أكبر من مجرد انتخابات، بل إن الانتخابات لا تمثل إلا جزءاً واحداً ومؤشراً على أمراض المجتمع أو صحته إن شئت. وهكذا فإن الانتخابات إن أخذت حقها الطبيعي ولم يتم تزويرها سواء بشكل مباشر أو غير مباشر فإنها ليست إلا مرآة عاكسة لواقع الحال. ومن المتوقع في حالة وجود شرائح مجتمعية واعية وحريصة على قيادة الرأي في اتجاه مفاهيم المواطنة العامة، فإن الانتخابات كسلوك سياسي سيتجه شيئاً فشيئاً نحو مزيد من الرشد في الممارسة والنتائج. شاركت وراقبت ودرست كل الانتخابات النيابية التي تمت منذ انتخابات 1975، ولدي كم هائل من المادة العلمية والتوثيقية نشرت البعض منها في دراسات أكاديمية أو مقالات صحافية، ومن المؤمل أن يتم نشر البقية تباعاً، كما شاركت في مراقبة ودراسة العملية الانتخابية في العديد من دول العالم، إذ اتضح أن الانتخابات إحدى أهم وسائل فهم تلك المجتمعات لحدث محدد بزمان ومكان وهو أمر لا يتيسر لدراسة ظواهر سياسية أخرى. الانتخابات، أي انتخابات في العالم، إن تمت إدارتها بنزاهة وشفافية، وتأسيساً على معطيات تكافؤ الفرص لجميع المواطنين، فإنها حينها تكون تعبيراً واقعياً وصادقاً عن توجهات الناس وآرائهم في تلك اللحظة، وهي آراء قابلة للتغيير بأسرع مما يتوقع الإنسان. هناك إيجابيات عامة تتميز بها انتخاباتنا فهي على سبيل المثال الأكثر انضباطية، والأقل عنفاً، والأكثر سلاسة في نمط الاحتجاج، وقد تحسن الأداء أكثر عندما أجريت جملة من التعديلات والضوابط على إعلانات الشوارع ومنعها، ونمط اقتراب المرشحين من مراكز الاقتراع، وأسلوب الإعلان الجماعي بالصور للمرشحين عند مراكز المناطق والأحياء. وقد كانت مناقصة اللوحات الإعلانية في الانتخابات قبل السابقة المحور الأساسي في الاستجواب الشهير الذي تم تقديمه لوزير الداخلية السابق. ومازلنا في حاجة الى العديد من الإصلاحات كإنشاء المفوضية المستقلة للانتخابات وإتاحة الفرصة للتسجيل التلقائي للناخبين بدلاً من حصر ذلك الأمر على شهر فبراير فقط، وتخفيض سن الناخب، وغيرها من الإصلاحات الأساسية لتكتسب العملية الانتخابية جدية أكبر وتكون عنصراً حقيقياً في عملية الإصلاح الشامل الذي هو بالضرورة عملية مستمرة لا تتوقف. الإجراءات الإدارية والتنظيمية للعملية الانتخابية لا ينبغي لها أن تكون مسائل محسومة ولا جدال حولها، بل إن طبيعتها تحتم إعادة النظر فيها وتعديلها وتشذيبها بشكل مستمر. ولنأخذ بريطانيا وأميركا كنموذجين. ففي بريطانيا مثلاً جمعية يطلق عليها اسم جمعية الإصلاح الانتخابي، عمرها يزيد على قرن من الزمان، انضممت إلى عضويتها منذ أكثر من عشرين سنة،  تنظم الحملات والتوعية من أجل تغيير النظام الانتخابي من التمثيل الفردي إلى التمثيل النسبي، استنادا إلى أن الوضع القائم فيه ظلم وإجحاف بحق الأحزاب الأصغر. وقد تحولت تلك الجمعية إلى بيت خبرة عالمي حول الانتخابات وتصدر عنها مجلة علمية عالمية بالتعاون مع جامعة أكسفورد، أما أميركا فإن نظامها الانتخابي وبالذات لانتخاب الرئيس هو نظام يعتمد على ما يسمى المجمع الانتخابي وليس على التمثيل المباشر، وهو من أكثر الأنظمة الانتخابية ضعفاً، ومع توافر قناعة كبيرة لتغييره إلا أن تشابك العملية السياسية وتضارب المصالح يعوق عملية التغيير. وقد شاركت في العديد من الحلقات الدراسية حول هذه الأمور وغيرها كضبط عمليات التمويل الانتخابية وأستطيع تأكيد أن من يتصور أن العملية الانتخابية هي عملية ثابتة لابد أن يراجع تصوره. الإصلاح الانتخابي هو جزء لا يتجزأ من عملية الإصلاح السياسي ككل، ولدينا حتى الآن إصلاحات مستمرة لم تتوقف، وهكذا يفترض لها أن تكون. فالسياسة التي هي الوعاء التي تدور في إطاره الانتخابات هي ذاتها متغيرة بحسب تغير مواقع مراكز القوى وأسس الصراع داخل المجتمع. العملية الانتخابية في حاجة دائمة إلى التعديل والتغيير وإلا فإننا أمام سلوك باهت ومهرجان كسيح لا يسمن ولا يغني من جوع.
Ad