قصة ثورة

نشر في 16-10-2011 | 00:01
آخر تحديث 16-10-2011 | 00:01
No Image Caption
 ياسر عبد العزيز بعد النجاح المشرق الذي حققته ثورة 25 يناير في مصر في أيامها الأولى، خصوصاً عندما نجحت في إطاحة مبارك عقب 18 يوماً من التظاهر والاعتصام السلميين المجالدين، دخلت تلك الثورة في أنفاق عديدة، وتعرضت لنكسات متتالية، أفقدت الجمهور بعضاً من إيمانه بقدرتها على العبور بمصر إلى التقدم والاستقرار، بل بدأت الثورة أيضاً تخسر بعض المؤيدين باطراد.

لم يكن أحد يصدق أن الثورة التي أذهلت العالم، كونها نبيلة ومصرة وبيضاء وحضارية، لم تستطع الحفاظ على زخمها لشهر واحد، وأنها أسلمت نفسها للانقسام والتخبط، بعدما فقدت البوصلة خلال الفترة الانتقالية الضرورية لترجمتها إلى دولة مستقرة قادرة على الوفاء بمطالب الثوار.

حين نجحت الثورة المصرية في أيامها الأولى، بدا العالم مذهولاً بسبب الطريقة التي تعاطى بها الثوار، والتي عكست درجة عالية من الوعي والوطنية والتحضر لدى الشعب المصري الذي شوشت عليه ثلاثة عقود من الخطل والفساد السياسي، زعزعت قيمه، وأضرت بصورته.

لذلك لم يكن غريباً أن يدعو زعماء عالميون إلى "تدريس الثورة المصرية" في مدارس بلادهم، أو يتمنوا أن يكون أبناء أوطانهم "كالمصريين"، أو لا يستغربوا ما حدث لأن "المصريين يصنعون التاريخ عادة"، أو يرصدوا بدهشة "كيف يقوم شعب بثورة، ثم ينظف الشارع قبل أن يغادره؟".

كان الشعور بالزهو الوطني في أعقاب نجاح الثورة في ذروته، وكانت الأعلام الوطنية ترفرف في الشوارع والشرفات، والأغاني الوطنية تصدح في الإذاعة والتلفزيون والشوارع والميادين، التي قامت جماعات من شباب الثورة بتنظيفها وتجميلها وتزيينها، قبل أن توزع الورود على جنود الجيش الحارسين والمارة.

كان مناهضو الثورة في تلك الأوقات عاجزين عن الظهور أو الكلام، بل إن بعضهم، رغم انتمائه المباشر للنظام السابق وتضرر مصالحه جراء قيام الثورة بشدة، كان على استعداد للتوافق معها بعدما تأكد أنها تمتلك طاقة قادرة على نقل مصر إلى حيث تستحق، كما كان أبناء الثورة في ذروة الشعور بالفخر الوطني، مشحونين بطاقة كبيرة على العطاء وقدرة على الفعل.

تجمعت عوامل عديدة لتعوق تلك الانطلاقة؛ منها بلا شك ما سُمي بـ"الثورة المضادة". و"الثورة المضادة" ليست بدعة أو اختراعاً أُريد منه إلقاء اللوم على كيان خرافي كما يقال، لكنها حقيقة واقعة يمكن تلمسها في الشارع والإعلام والسياسة والبيروقراطية المصرية.

"الثورة المضادة" تجمع مصالح شديد القوة، يتمتع بخبرة واسعة، ويتمركز في أعماق البلاد كلها، وينسق مع قوى إقليمية، ويمتلك ثروات مالية ضخمة، ويتحكم في جيوش من البلطجية والأعوان ويدرك أن اكتمال نجاح الثورة سيضر مصالحه ضرراً شديداً وقد يقضي عليه، لذلك فإنه يفعل "أي شيء وكل شيء" يمكن من خلاله إفشال الثورة، وبالتالي إيقاف المحاسبة، وإعادة إنتاج النظام السابق بما يحافظ على أمن أنصاره وأعضائه ومكاسبهم.

لكن "الثورة المضادة" وحدها لم تكن تستطيع أن تعوق الثورة عن تحقيق أهدافها إذا ووجهت بطاقة ثورية عازمة على الوصول إلى الغاية المأمولة، خصوصاً أن تلك الطاقة تم اختبارها سابقاً بالنار، وأثبتت قدرتها الفائقة على الصمود وتحقيق الإنجازات الهائلة.

لقد فقدت الثورة طاقتها، لأنها تفرقت في صراعات مصالح ضيقة، وبدلاً من أن تحتفظ بتلك الطاقة لتجاوز العقبات الجسام، راحت تستخدمها في تعويق نفسها.

شيء كهذا الذي وقع في "غزوة أحد" حدث للثوار المصريين... لقد انفضوا عن المواقع التي يجب أن يظلوا مرابطين فيها، واندفعوا دون تنسيق إلى ساحة المعركة التي بدا أنها انتهت للتو، محاولين حصد أكبر عدد من الغنائم، وهنا وجد "العدو" ثغرة إليهم، ونظم فلوله وعاد سريعاً لينال منهم، فيما هم منهمكون في حصد الغنائم الصغيرة.

لا شك في أن الجيش الذي حمى الثورة وضمن استمرارها في بداياتها، يتحمل قدراً كبيراً من المسؤولية عما آلت إليه الأوضاع الآن، بسبب الإدارة السيئة للفترة الانتقالية، و"التواطؤ" أو "التباطؤ" في تصفية قواعد النظام السابق، وأخيراً بسبب عدم رغبته، كما يبدو، في الإسراع بنقل السلطة إلى حكومة منتخبة وفق جدول زمني محدد وواقعي.

من المعروف طبعاً أن الجيش لم يأتِ من عالم السياسة، وأن الأقدار وضعته في ميدان غير هذا الذي تعوده وآلف التعاطي معه، وأن نقص خبراته السياسية ليس سبّة أو عيباً فيه، لكنه أيضاً لم يسع إلى الاستعانة بمستشارين مدنيين قادرين على التخطيط الجيد، أو أنه حينما استعان بمستشارين لم يحسن الاختيار.

ثمة كذلك صعوبات أخرى بعضها أمني والآخر سياسي ومعظمها اقتصادي، وقد تحالفت تلك الصعوبات لتضع البلاد في مأزق شديد الصعوبة، خصوصاً أن فكرة التصارع على الغنائم الصغيرة باتت تضاعف تلك الصعوبات، إذ حررت الثورة فئات عديدة من المصريين من الخوف، وعززت لديهم نزعة المشاركة بفاعلية وطرح المطالب، وهؤلاء انخرطوا في مظاهرات واعتصامات، بعضها عنيف، من أجل تحقيق مطالب فئوية؛ وهي مطالب يحتاج معظمها تمويلاً لا تجده الدولة التي تعاني العجز وتراجع الموارد، وبعضها يخرق الأمن، الذي يعاني الاستباحة والانفلات.

كان من السهل على الثورة والثوار مقاومة تلك العوامل المعاكسة، خصوصاً إذا ما استعادوا روح يناير الملهمة، لكن ما نال فعلاً من تلك الروح، وأحال قدراً كبيراً من الشعور بالتفاؤل والبهجة إلى قلق عميق وحزن مهيمن، ما ظهر من نذر فتنة طائفية بغيضة، بعضها جاء بسبب تراكمات مخزية على مدى عقود من الاضطهاد والجهل والتعصب والتمييز، وبعضها الآخر ظهر بسبب طموحات جارفة راودت بعض المتأسلمين لخطف الثورة والهيمنة على البلاد، وتحويلها إلى دولة دينية.

لقد بدأ المتأسلمون مبكراً حين أطلقوا على استفتاء التعديلات الدستورية في مارس الماضي لقب "غزوة الصناديق"، وحرفوا تصويت الجماهير بأن طرحوا شعارات دينية للحشد للتصويت بـ "نعم"، ثم وقعت أحداث كنيسة أطفيح، وبعدها فتنة كنيسة إمبابة، وأخيراً فتنة كنيسة "الماريناب" في أسوان، وما خلفته من أحداث الأحد الماضي الأسود أمام ماسبيرو، حيث قتل 25 قبطياً وأصيب أكثر من 300، إضافة إلى عدد من أفراد الجيش في مصادمات مخزية بقلب القاهرة.

مازالت الفرصة قائمة أمام الثورة المصرية لتستعيد زمام المبادرة وتواصل طريقها نحو بناء دولة حداثية مدنية ديمقراطية، إذا استطاعت أن تتحرر من فكرة الغنائم الصغيرة، وأن ترشّد طاقتها وتحسب خطواتها، وأن تضغط على الجيش بمسؤولية ووعي لتحمله على إنجاز المرحلة الانتقالية دون أن تزعزع تماسكه أو تهينه أو تغري به، والأهم من ذلك كله ألا تسمح تحت أي ظرف من الظروف بالسقوط في مستنقع الفتنة الطائفية، لأن هذا الأخير بالذات كافٍ لإسقاط دولة وليس فقط لتعويق ثورة.

* كاتب مصري

back to top