هستيريا ديمقراطية

نشر في 09-09-2011
آخر تحديث 09-09-2011 | 00:01
إن معظم السكان في أكبر ديمقراطيتين في العالم يفهمون أن الديمقراطية لا توفر حلولا سحرية، وإن واحداً من أهم التطورات المؤسفة في عصرنا الحالي هو أن العديدين مستعدون الآن أن يجربوا مسكنات غير صحية وطرقا مختصرة.
 بروجيكت سنديكيت لقد حصل أنه خلال الطريق المسدود السياسي الذي أصاب أخيرا أكبر دولتين ديمقراطيتين في العالم وهما الولايات المتحدة الأميركية والهند بالشلل أن القادة الذين يتمتعون عادة بحسن البصيرة قد افتقدوا التصميم على آرائهم، بينما كان الأشخاص الذين يتصفون بالتضليل والضحالة أكثر حماسة لو أعدنا صياغة كلمات ويليام بتلر يايتز، وهذه الحماسة لا يبدو عليها أنها سوف تضعف.

أما في الولايات المتحدة الأميركية فإن الجهلة في علم الاقتصاد والذين يرون حولهم البؤس بسبب فقدان الوظائف والاستيلاء على المنازل التي يعجز أصحابها عن السداد والهبوط الواضح في مكانة أميركا الدولية يستمدون جنونهم من مناصرين للاستقامة المالية عفا عليهم الزمن بينما في الوقت نفسه يمسكون بكتبهم المقدسة، ويعكسون مراهقة في فهم الدستور الأميركي، لكن جهودهم تزيد من أزمة الاقتصاد الأميركي مما يجعل استعادة العافية أمرا أكثر صعوبة، حتى أن من يقفون خلفهم من الأشخاص الذين ينفرون من الضرائب، وبالرغم من تقديرهم لجهود هؤلاء الرعاع في حماية ثروتهم، هم الآن خائفين من تأثير هذه الأفكار المتقلبة، وغير المركزة على مناخ الاستثمار وأسعار الأسهم.

إن الرئيس باراك أوباما الذي تم تعليق آمال عريضة عليه عند انتخابه سنة 2008 قد أخذته الأحداث على حين غرة، فهو يعرف أن ما يريده الاقتصاد على المدى القصير يختلف عن ماذا يتوجب عمله من أجل إدارة الدين العام على المدى الطويل، ولكنه غير قادر على إظهار قيادة حازمة، وإن جهوده المضللة من أجل التوصل لحلول وسط تؤدي فقط الى زيادة جنون خصومه.

أما في الهند فإن رئيس الوزراء مانموهان سينغ الذي تمتع في السابق بسمعة طيبة في النزاهة والذكاء قد أصابه أيضا الشلل، حيث تصرف بشكل غريب في وجه حركة شعبية غوغائية مشابهة لتلك الموجودة في الولايات المتحدة الأميركية أي حملة مكافحة الفساد بقيادة الناشط الصائم أنا هازار، والتي انتهت أخيرا بعد التوصل إلى تسوية محمومة وصعبة.

يحاول هازار والذي تلقى الدعم والتشجيع من قبل طبقة متوسطة مدنية وساخطة تلوح بالإعلام وصحافة تسعى إلى الإثارة ،أن يدعي أنه يعيش في عباءة المهاتما غاندي، وإن هازار يجيد تقليد تقوى غاندي لكنه يفتقد إلى حكمة غاندي.

إن الفساد على المستويات الأدنى (الشرطة والمحاكم والكتبة الحكوميين) كان دائما منتشرا في الهند، وإن نوعية الفساد الذي زاد في السنوات الأخيرة يعود جزئيا إلى النمو الاقتصادي السريع، وإن الموارد العامة مثل الأراضي والمعادن والهيدروكربونات وقطاع الاتصالات قد زادت قيمتها بشكل كبير، وفي سعيهم إلى التحكم بها أراد رجال الأعمال أن يلجؤوا إلى طرق مختصرة وسريعة للوصول إلى أهدافهم.

إن من الأسباب الأخرى لزيادة الفساد الزيادة الكبيرة في نفقات الانتخابات، حيث يقوم السياسيون بجمع الأموال من قطاع الأعمال كجزء من تبادل المصالح، فلا يوجد في الهند والولايات المتحدة الأميركية الكثير من التمويل العام للانتخابات، كما أن التبرعات الكبيرة لقطاع الأعمال التي تعتبر قانونية في الولايات المتحدة الأميركية هي عادة ما تكون غير قانونية في الهند؛ مما يعني أنه عادة ما يتم تقديمها بشكل ملتوٍ.

لكن بدلا من التعامل مع الأسباب الهيكلية لارتفاع الفساد فإن حركة مكافحة الفساد في الهند تشتكي من الضعف المفترض في القيم الأخلاقية، حيث تطالب بهيئات إضافية مع صلاحيات ظلامية من أجل المراقبة والمعاقبة، وإن الطبقة المتوسطة المدنية التي فقدت الصبر من المسيرة البطيئة للديمقراطية لجأت إلى رجال الدين وتعاويذهم السحرية، وكما في الولايات المتحدة الأميركية فإن الغضب الشعبي بطريقة ما لا يركز على الأغنياء الذين يمنحون تلك الرشاوى بل على السياسيين الذين يتلقون تلك الرشاوى.

يجب التفكير بالأبعاد الطويلة المدى في كلا البلدين لمثل هذه الحركات الشعبية الغاضبة على سلامة المؤسسات الديمقراطية، وهذا ينطبق على وجه الخصوص على الهند، حيث إن الانتخابات هناك هي أكثر قوة والناس العاديين هناك يشاركون في تلك الانتخابات بشكل أكثر حماسة مقارنة بالولايات المتحدة الأميركية، ولكن لا تزال المؤسسات الديمقراطية الأخرى هناك ضعيفة، وأحيانا لا تعمل، كما أن القضاء بطيء جدا وأحيانا يعاني الفساد.

وإن الشعوبيين الذين يتلقون تشجيع الجمهور يقومون بإطلاق اللعنات على السياسيين المنتخبين ويصفونهم باللصوص، وهذا يعني أنهم يحطون من قدر المؤسسات وعمل الحكومات التمثيلية، وإن مثل هذا النوع من تشويه السمعة في الماضي القريب في إفريقيا وأميركا اللاتينية وأجزاء أخرى من جنوب آسيا جعل من السهولة بمكان للشعوبية السلطوية أن تترسخ.

وإن الشعار المنتشر على نطاق واسع "أنا هازار هو الهند والهند هي أنا هازار" يذكرنا ببعض الأيام السوداء لأحكام الطوارئ إبان حكم أنديرا غاندي سنة 1975-1977 عندما رفع أتباعها شعار "أنديرا هي الهند"، لكن رافعي تلك الشعارات يتجاهلون التنوع الشديد للهند، وإن العديد من الأقليات العرقية ومعهم المئة والخمسون مليون مسلم هندي يعارضون بشكل علني حركة هازار.

وإن أحد قادة طبقة الداليت- وهي الطبقة الأقل طبقا للنظام الطبقي القديم في الهند- عبّر عن الخوف بأن نجاح "أنا هازار" يمكن أن يلهم أحد قادة الأغلبية من أجل إثارة حركة أضخم، وذلك لإلغاء حقوق الحماية وسياسات العمل الإيجابي، والتي أعطت بعض الكرامة للطبقات الدنيا، كما اعترض بعض قادة المجتمع المدني بأن برنامجهم المعادي للفساد والمختلف تماما قد تم تفريغه من مضمونه بسبب مطالبات هازار.

ليس من الصعب في دولة مكتظة بالسكان أن تجتذب عددا كبيرا من الناس، وإن الصحافة الإلكترونية على وجه الخصوص تهتم بشكل خاص بالجماهير التي تلوح بالأعلام، وتهتف بشعارات قومية، كما قال أحد الصحفيين إنه عندما شارك حوالي 400 ألف شخص- أكبر بكثير من أتباع هازار في دلهي- في مسيرة في كلكتا في مايو 1998 ضد الاختبارات النووية للحكومة، لم تولِ وسائل الإعلام المسيرة كثيرا من الاهتمام.

حتى عندما تحظى الحركات بدعم كبير- وهذا لا ينطبق على الحركات السياسية الأخيرة في أميركا والهند- فإن هناك توترا أساسيا بين الجوانب الإجرائية للديمقراطية وتلك المتعلقة بالمشاركة الشعبية، فبخلاف الإصلاح الانتخابي فإنه يجب أن يكون هناك توازن بين منافذ المشاركة السياسية والتعبير عن المظالم العامة، وبين المؤسسات والإجراءات المعزولة جزئيا عن تقلبات السياسة.

بالطبع فإن الحكومة التمثيلية أحيانا لا تقوم بالاستجابة، وخاصة بين الانتخابات، ولكن الديمقراطية المباشرة ليست الحل، وإن ولاية كاليفورنيا الأميركية التي أصبحت غير فعالة منذ الاستفتاء الشعبي سنة 1978 والذي وضع حدا لضرائب العقارات هي شاهد على ذلك، كما أن الحل ليس في المطالبة بعمل تشريع سريع لمواجهة تهديدات بحدوث اضطرابات بسبب شخص قرر تجويع نفسه حتى الموت كما فعل أنا هازار.

وإن معظم السكان في أكبر ديمقراطيتين في العالم يفهمون أن الديمقراطية لا توفر حلولا سحرية، وإن واحداً من أهم التطورات المؤسفة في عصرنا الحالي هو أن العديدين مستعدون الآن أن يجربوا مسكنات غير صحية وطرقا مختصرة.

* براناب برادهاب ، أستاذ في كلية الدراسات العليا في جامعة كاليفورنيا في بيركلي، وأحدث مؤلفاته كتاب «صحوة العمالقة، وأقدام من صلصال: تقييم الصعود الاقتصادي للصين والهند»، وكتاب «العولمة والديمقراطية والفساد».

«بروجيكت سنديكيت، 2016» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top