لا قداسة لأحكام القضاء... ولكن!
لست مع من يخلعون على الأحكام القضائية قداسة ليست لها، وقد قال الرسول عليه الصلاة والسلام، وهو يتولى ولاية القضاء: «إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له بحق أخيه شيئاً فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار».هذا هو سيد الخلق الذي لا ينطق عن الهوى عندما يشرع للناس أمور دينهم ودنياهم، يقول عن نفسه إنه بشر يخطئ ويصيب، فلا يجوز أن نخلع على أحكام يصدرها قضاة من البشر عصمة لم يعصم النبي نفسه منها، فنسدل ستار الصمت على أحكامهم، أصابت أو أخطأت، في الوقت الذي يعتبر فيه الدستور علانية الجلسات من الضمانات الأساسية للمحاكمة، وهي ضمانة لم تُشرّع عبثاً، وإنما شرعت لإخضاع هذه الأحكام لرقابة الشعب، وحتى في الأحوال التي تقرر فيها المحاكم عقد جلساتها سرية مراعاة للآداب العامة، فإن النطق بالحكم يكون في جلسة علنية، ليخضع الحكم بدوره لرقابة الشعب، لأن السلطة القضائية شأنها شأن أي سلطة أخرى لا يجوز أن تكون أعمالها بمنجاة من رقابة الأمة مصدر السلطات جميعاً. علانية الجلسات وعلانية الجلسات هي الضمانة الحقيقية لديمقراطية القضاء من خلال نقد الإجراءات والأحكام القضائية، النقد العلمي الموضوعي النزيه، عندما تودع المحكمة أسباب حكمها ليطلع عليه الرأي العام، وذلك بعيداً عن التجريح أو الإثارة، لذلك لم يكن من الإنصاف على الإطلاق التعليق الذي جرى على صفحات الصحف للأحكام الأربعة الصادرة يوم الثلاثاء الخامس من يوليو الجاري ببراءة بعض المتهمين، ومنهم أنس الفقي ويوسف بطرس غالي وأحمد المغربي، وزراء الإعلام والمالية والإسكان السابقون، وما حملته تلك التعليقات من عبارات ساخرة مثل «مهرجان البراءة للجميع»، قبل أن تقرأ أسباب هذه الأحكام، لأننا لا يجوز أن نفقد ثقتنا بقضائنا، أصاب أو أخطأ، فهو الحصن الحصين للحقوق والملاذ الأمين للحريات، وأستعيد في هذا السياق ما قاله تشرشل رئيس حكومة بريطانيا لوزرائه، عندما سألهم بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية التي خلفت الخراب والدمار في كل مرافق بريطانيا، وماذا عن القضاء؟ فأجابه وزير العدل: القضاء بخير، فعقب تشرشل إذن بريطانيا بخير.ولعلي لم أفاجأ بالقرار الجديد للمجلس الأعلى للقضاء الذي ألغى قراره السابق بحظر نقل أو بث وقائع أو إذاعة المحاكمات القضائية، والذي صدر قبل ثورة الخامس والعشرين من يناير، وكنت قد انتقدت هذا القرار في مقالين نشرا على صفحات «الجريدة» في عدديها الصادرين في 17و24 /10/2010، الأول تحت عنوان «علانية الجلسات وقرار المجلس الأعلى للقضاء» والثاني كان عنوانه «قرار المجلس الأعلى للقضاء مساس باستقلال القاضي»، نبهت فيهما إلى أنه لا يجوز لهذا المجلس اتخاذ هذا القرار المخالف للدستور سواء فيما ينص عليه من علانية الجلسات أو فيما ينص عليه من استقلال القضاء وعدم جواز التدخل في سير العدالة (وجدير بالذكر أن المقالين نشرا في صحيفة «الكرامة» المصرية في عدديها الصادرين 24 و31/10/2010 باتفاق خاص مع «الجريدة»).وهي العلانية التي تحرص الدول الديمقراطية على النص عليها في دساتيرها وقوانينها. لتكون هذه المحاكمات تحت سمع وبصر الرأي العام. وأن يسمح لمن يرغب من الأفراد بحضور المحاكمة ومتابعة ما يدور فيها، بما يخلق رأياً عاماً قادراً على بسط حمايته للعدالة ورقابته لكيفية سير المحاكمات والتزام القضاة بالحياد والنزاهة في إدارتهم للجلسات وسماعهم للمرافعات.وقد حرص القضاة في صدر الإسلام على هذه العلانية في قضائهم، فاتخذوا من المسجد مجلساً للقضاء. لأنه مكان لا يمنع عنه أحد، وكان الرسول (صلى الله عليه وسلم) والخلفاء الراشدون يقضون فيه كما كان سيدنا علي رضي الله عنه يقضي في السوق.وإني على يقين بأن إذاعة محاكمات الفساد ونشرها من خلال وسائل الإعلام المختلفة، وعلى الأخص التلفاز، هو أمر من شأنه أن يبعث الاطمئنان في نفوس الثوار ويبعث على الثقة في أحكام القضاء، وسيمنع التزاحم على دور المحاكم وقاعات الجلسات، بما يعطل الفصل في الدعاوى ويطيل أمد هذه المحاكمات، حيث اضطرت بعض المحاكم إلى تأجيل نظر بعض الدعاوى بسبب التزاحم والتدافع أمامها.وليس بالضرورة أن يكون بث وإذاعة المحاكمات بثاً مباشراً، بل يعهد إلى المكتب الفني للمحكمة بالإشراف على ما يبث ويذاع منها، حتى يكون النقل موضوعياً ومحققاً للشفافية والعلانية في إجراءات المحاكمة، بعيداً عن الصغائر والمداخلات غير المسؤولة التي تصاحب بعض المحاكمات.
مقالات
ما قل ودل: الثورة المصرية وعلانية المحاكمات
24-07-2011