هل ننهض من تحت الخراب؟
من فوق الخراب... ينعق الغربان في بلاد العربان... «من الشّامِ لبغدان ومن نجدٍ إلى يَمَـنٍ إلى مِصـرَ فتطوان»... احتقان طائفي خطير يقودنا إلى هاوية سحيقة ما لم نستوعب دعوة أردوغان في زيارته الأخيرة لمصر... وها هي تداعيات ما كان يحذِّر منه تتجلى بأبشع صورها في مذبحة الأقباط التي بدأت أحداثها بتصاعد التوتر الطائفي في القرية بعد إعادة بناء كنيسة في أسوان واعتراض الجماعة السلفية في القرية على بناء القباب والجرس والصليب، فطالبوا بهدمها بعد تحريض أمير الجماعة الإسلامية بأسوان في خطبة الجمعة، وقاموا بالاعتداء عليها رغم محاولات المبادرة المصرية للحقوق الشخصية للصلح، والتي رفضت بدورها واستنكرت تصريحات محافظ أسوان الذي برر الاعتداء.ليتكرر مسلسل تواطؤ الدولة مع الجماعات المتطرفة في إذلال واضطهاد وانتهاك حقوق مواطنين مصريين، وبدلاً من قيام الدولة بدورها في حماية حرياتهم وحقوقهم يفلت المعتدون في كل مرة من العقاب، فالذي يأمن العقوبة يسيء الأدب... لتتكرر الجرائم واحدة تلو الأخرى من اعتداء على المحال والمنازل وأماكن العبادة، لينفجر الوضع في الحادثة الأخيرة، التي اعتصم من أجلها المسيحيون والمسلمون في ماسبيرو للتنديد بحادثة أسوان. وبدلا من القيام برد العدوان عن الكنيسة، تصادم الجيش مع المتظاهرين وقام بدهسهم وإطلاق الرصاص عليهم، لتسفر تلك المجزرة عن عشرات القتلى ومئات الجرحى.
كما ساهم الإعلام الرسمي بالتصعيد والتحريض، مطالباً الجماهير بنصرة القوات المسلحة التي تواجه عدوان المتظاهرين! أي جنون هذا الذي جعل الفالتين من عقالهم يهجمون بحالة هيجانية وحشية على المعتصمين، ويحققون في هويات المارة ويحطمون محال الأقباط صائحين «النصارى فين الإسلام أهو»! ما أسوأ ما فعل هؤلاء بالإسلام.لكن أنى لهؤلاء أن يستوعبوا ما دعا إليه أردوغان في زيارته لمصر بضرورة «وضع دستور يقوم على المبادئ التي من شأنها أن ترسي قواعد دولة مدنية حديثة تقف على مسافة متساوية في تعاملها مع كل الأديان والفئات»... وهكذا هو النموذج التركي العلماني الناجح الذي وصل من خلاله الإسلاميون إلى الحكم، وهو ذات الشعار الذي رفعه سعد زغلول زعيم ثورة 1919 «الدين لله والوطن للجميع»، هو الذي حفظ وحدة مصر وهو الذي صب الماء على نار التعصب الطائفي لاسيما بعد مقتل بطرس غالي باشا رئيس وزراء مصر القبطي في 1910 على يد مسلم متطرف، فسعد زغلول الذي كان وزيراً حتى 1912 استطاع بترويجه لمبادئ الحرية والعدالة إخماد نار الطائفية من خلال ضم الأقباط واحتوائهم سياسياً واجتماعياً ليشاركوا بفعالية في الحياة العامة ويشعروا بمواطنتهم الكاملة، فتوحد المسلمون والمسيحيون ضد المستعمر في ثورة 1919، وخطب القساوسة من فوق المنابر وشيوخ الأزهر في الكنائس... بل فاز الأقباط في دوائر تقل فيها أعدادهم، إلا أن الوضع عاد القهقرى حين حارب السادات المثقفين وترك الأصوليين يعيثون في الأرض فسادا.يعلمنا التاريخ أن لا إصلاح دينياً دون إصلاح سياسي اقتصادي اجتماعي شامل، فأوروبا التي اكتوت شعوبها بنيران الطائفية وأكلت حروبها الأهلية الطاحنة الأخضر واليابس حين كان القتل على الهوية، تمكنت من الخروج من العصور الظلامية حين تحرر الإنسان من الاستبداد الديني والسياسي، الأمر الذي مهد الطريق للتحرر من الأغلال الطائفية الماضوية لينهضوا من تحت الخراب... بعد أن كان ينعق فوقه الغراب.