وليس الذكر كالأنثى ... وهم ثقافي مزمن

نشر في 24-10-2011
آخر تحديث 24-10-2011 | 00:01
No Image Caption
 د. عبدالحميد الأنصاري ذكرنا في مقالة سابقة بعض الأوهام الحاكمة للثقافة السياسية والاجتماعية السائدة في المجتمعات العربية كوهم الماضي السعيد الزاهر، ووهم أفضلية الرجل على المرأة، وقلت إنها أوهام ثقافية موروثة مستحكمة، مازالت تعمل في الأعماق البعيدة لبنية المجتمعات العربية، فتصوغ العقل الجمعي للعرب، وتشكل نفسياتهم ولا وعيهم، وتحدد اتجاهاتهم ومواقفهم تجاه الآخرين، بل تنعكس على تشريعاتهم وأنظمتهم السياسية والاجتماعية. وقد أشرنا إلى أن الوهم المتعلق بأفضلية الرجل وأصلحيته للمناصب العامة وأرجحية عقله وأحكمية تصرفه وتدبيره في المواقف المختلفة، وهم مستحكم لدى القطاع الأكبر من الجماهير ومن النخب الثقافية والدينية والإعلامية، وهذا ما نلمسه ونشاهده من خلال المتحدثين والخطباء عبر المنابر الدينية والإعلامية والفضائيات والمواقع الإلكترونية حين يتناولون قضايا متعلقة بالمرأة أو يفسرون نصوصاً قرآنية متصلة بالمرأة.

ومن المناسب هنا أن نذكر أمثلة من نصوص دينية فسرت تفسيراً خاطئاً لتأكيد علو مكانة الرجل على المرأة، ولا يفوتنا في هذه المناسبة أن نترحم على الشيخ محمد الغزالي، هذا المصلح الاجتماعي والديني الذي ناضل طويلاً من أجل تقرير حقوق المرأة ومكانتها كما قررهما الإسلام، فقال في أحد كتبه "إني أشعر بأن أحكاماً قرآنية ثابتة، أهملت كل الإهمال لأنها تتصل بمسألة المرأة" ومن ذلك: إن القرآن الكريم يقرر بوضوح أن الديّة واحدة سواء بالنسبة إلى الرجل أو إلى المرأة كما في الآية الكريمة "وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ"، ولكن أهل الحديث والفقه- تحت وهم أن المرأة أدنى مكانة من الرجل ودمعها أرخص- جعلوا دية المرأة نصف دية الرجل!  ولله در الشيخ الغزالي حين عقب على هذه التفرقة الظالمة بمقولته الشهيرة "وهذه سوءة فكرية وخلقية، رفضها الفقهاء المحققون"... ونضيف- هنا- بأن هناك نصوصاً قرآنية واضحة أسيء تفسيرها بهدف تكريس دونية المرأة وأفضلية الرجل منها:

1- الآية الكريمة في صورة آل عمران " فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى"، استنتج جمهور الفقهاء والمفسرين والمحدثين، قدامى ومعاصرين، وتابعهم معظم الكتاب الإسلاميين في مؤلفاتهم المنشورة من قوله تعالى "وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى"، ما يؤكد زعم أن الأنثى دون الرجل في المكانة الاجتماعية وفي الحقوق المدنية والسياسية، واستندوا إليها كحقيقة قرآنية وبنوا عليها أحكاماً فقهية تعطي الرجل امتيازاً على المرأة وتمنحه أولوية في كل الحقوق.  والمشكلة أن طائفة من الفقيهات العالمات، وبسبب استلاب الوعي أو الوعي الزائف مقتنعات بامتياز الرجل ويدافعن بحرارة عنه، فلا عجب أن نجد أستاذة ورئيسة لقسم الفقه بجامعة الأزهر مثل د.سعاد صالح تقول في ندوة لمجمع البحوث الإسلامية منذ سنوات عدة، إن الله نفى المساواة المطلقة بين الجنسين ثم تستشهد بالآية "وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى"، وكان من آثار ونتائج ترسيخ هذا الوهم في البنية المجتمعية، أن التشريعات المعاصرة في المجتمعات العربية كافة مازالت منحازة إلى الرجل على حساب حقوق الأسرة "المرأة والأطفال"، وأبرزها تشريعات الأسرة التي تمنح الرجل مكانة عليا متميزة، وتعطيه حقوقاً على حساب المرأة والأطفال، فيستطيع بكلمة هازلة أن يشردهم ويرمي بهم في الشارع. فالرجل من حقه المطلق والسيادي أن يطلق زوجته كيفما شاء ومتى ما شاء! مازحاً أو نائماً أو حالماً أو متلاعباً أو لنزوة أو عبر رسالة "sms"، لكن المرأة التي شاء حظها العاثر أن ترتبط بزوج سيئ المعشر لا تستطيع تحرير نفسها إلا بإجراءات طويلة وزمن طويل تفتدي فيه نفسها عبر مساومات وابتزازات من الزوج! ولكن: هل القرآن الكريم ينتقص من المرأة ويجعل مكانتها دون الرجل؟! ذلك غير متصور من دين خالد جاء بمبدأ المساواة بين البشر، كيف وقد قال عز وجل "وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ" ومن لوازم ومقتضيات التكريم الإلهي: المساواة في الحقوق والواجبات، ثم إن الخالق العادل هو القائل سبحانه في محكم كتابه "فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى"، قد يقال إن الرجل ميّزه القرآن بالقوامة والشهادة والميراث، لكن هذه حالات تعد استثناء من القاعدة ولا يقاس عليها.

هذا أولاً وثانياً: إن هذا التميز مرده اعتبارات موضوعية لا أفضلية جنس على آخر، ولكن القرآن الكريم إذ لا يفضل جنساً على آخر، فمن أين نشأ هذا الوهم بأفضلية الرجل! أتصور أن منشأه، غفلة أو تغافل هؤلاء عن أن قوله تعالى ""وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى" مقولة امرأة عمران يرويها القرآن على لسانها، وليست حقيقة شرعية وقرآنية مقررة، وأصل الموضوع أن أم مريم نذرت إن رزقها الله تعالى بولد، فستهبه لخدمة المعبد، لكن الله تعالى رزقها بمريم فأسقط في يدها واحتارت في نذرها واعتذرت إلى الله تعالى قائلة: إني رزقت أنثى، وهي لا تصلح لمهمة خدمة المعبد كالرجل، وهو أعلم وأحكم بما حصل، قال "والله أعلم بما وضعت" تعظماً وتقديراً للمرأة والتي هي مريم، فليس في الآية ما يشعر بالانتقاص من المرأة بل فيها التقدير والتبجيل ورفعة المكانة.

إذن ما الذي جعل هؤلاء يتغافلون عن هذا التفسير الواضح؟ هنا نرجع إلى تأثير النظام الاجتماعي السائد في المجتمعات العربية، وهو نظام يُنشّئ أفراد المجتمع على قبول أفضلية الرجل عبر ما يسميه البليهي "الامتصاص الثقافي" التلقائي، حيث يبرمج الأفراد على الاقتناع بامتياز الرجل ودونية المرأة، وذلك عبر أسلوبين: 1- النمط التربوي السائد الذي يقبل التفرقة بين الأخ وأخته في الحقوق والامتيازات. 2- النمط التعليمي السائد الذي يكرس وضعاً هامشياً لدور المرأة في الحياة العامة، ويغرس في نفوس الطلاب منذ الصغر أن الرجل أكمل عقلاً وأحسن تصرفاً وأكثر قدرة في مقابل أن المرأة أكثر انقياداً لعاطفتها، ولا تحسن التصرف في المواقف الحياتية إلا بتوجيه ووصاية من الرجل.  في ظل هذا السياق الاجتماعي تتم قراءة النصوص الدينية وتفسيرها، خصوصاً أن المرأة على مر التاريخ الإسلامي كانت مغيبة عن مجرى الحياة العامة على هامش المجتمع، والفقهاء- في النهاية- ومهما أخلصوا واجتهدوا فهم أبناء بيئاتهم وثقافتهم الاجتماعية، منغمسين فيها لا يستطيعون الإفلات أو الانعتاق من قبضتها إلا ما ندر.

2- الآية الأخرى في صورة طه "فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى"، يرى أنصار التفرقة في قوله تعالى "فتشقى" ولم يقل "فتشقيان"، أن الرجل وحده هو المسؤول عن الكد والعمل والشقاء، والمرأة منزهة عن أن تكون محل شقاء، وإنما هي للحنان والرقة ودورها في الحياة: تهيئة المسكن المريح للرجل، وأن عمل المرأة وخروجها وضع استثنائي! ولكن هذا فهم آخر مغلوط، لأن علة "فتشقى" كون الخطاب لآدم ولأن في إسناد الشقاء لآدم إسنادا لزوجه بالتبعية، وأما القول إن المرأة لا تشقى وخروجها للعمل استثناء، فالمرأة على مر التاريخ البشري كانت تعمل وتكدح في المهن والحرف المختلفة: زراعة ورعي وسقي وإعداد الطعام، وكانت تعمل وتشقى بجانب الرجل تشقى بشقائه، وخروج المرأة لخدمة مجتمعها ودينها وليس بسبب حاجتها المادية بل لأن المجتمع الحديث بحاجة إلى عمل المرأة باستمرار لإنجاح خطط ومشاريع التنمية، فهو ليس وضعاً استثنائياً... ثم أليس الحمل والولادة والرضاعة والتربية ورعاية البيت، أمورا داخلة في مفهوم الشقاء؟!  أفضلية الرجل وامتيازه وهم ثقافي مزمن ومستحكم، علينا إذا أردنا صنع المستقبل تجاوزه كما تجاوزه عالم المزدهرين.

* كاتب قطري

back to top