بوادر أول الشتاء. ومعها ستخف حركتي المعتادة باتجاه أنشطة لندن الثقافية: معارض، موسيقى، مكتبات، وأنشطة أخرى. سأتحين الفرص بالتأكيد. فلندن ليست ثلجية الشتاء. تيارات المحيط الدافئة تجعلها أرحم البلدان الشمالية. أتحين فرص اعتدال البرد، ولكن من أجل نشاط ثقافي نهاري فقط. ملاحقة نشاط ليلي مغامرة غير محمودة. فالبرد فيه محفز للمخاوف. ليس من تطفل الكائنات الليلية المفاجئ فقط، بل من البرد الذي أفقد بوصلة مصادره. أتُقبل جميعاً من خارج الجسد، أسوة ببقية البشر، أم تُقبل عليّ من داخلي، وكأنه "أمر خُصصت به من دونهم وحدي"؟

Ad

ولأن إمكانات الانتفاع من اعتدال البرد مازالت مُتاحة، حضرت قبل أيام عزفاً موسيقياً في "قاعة الاحتفال الملكية" في مجمع "الساوث بَنك". عزف تقوم به "أوركسترا فيلْهارمونِك الملكية"، تحت قيادة البارع السويسري تشارلسدوتوا. الأعمال التي سأسمعها ليست جديدة علي: "افتتاحية القرصان" للفرنسي بيرليوز. "كونشيرتو الكمان" للأميركي باربر. "السيمفونية الخامسة" للروسي تشايكوفسكي. حتى أن الأخيرة سبق أن سمعت عزفها مرتين، في أقل من شهرين سابقين. وشعرت بالتخمة من حركاتها الأربع، التي تفيض ألحانها في رأسي. واقترحتُ على النفس ألا أحضر عزفها، هي التي تحتل النصف الثاني من الكونسيرت. ولكني ما ان سمعت الموسيقيين، وهم يدوْزنون آلاتهم، ويبعثون هذا الضجيج المليء بالفتنة، حتى رجعت عن قراري. وتعزز ذلك في عزف "افتتاحية" بيرليوز. لأن سماع العزف الحي يختلف في النوع، لا في الدرجة، عن العزف الذي يأتيك من الاسطوانة. وعزف الاسطوانة يحتل تاريخاً كريماً في ذاكرتي ومخيلتي.

بيرليوز الرومانتيكي (1803-1869) رومانتيكي في كل شيء. في موسيقاه، وفي حياته. كتب عليه الأهل أن يدرس الطبابة أول الأمر. في أول محاضرة تشريح حضرها، فقد توازنه أمام مرأى الإنسان الذي هو محض شرائح لحم ناشفة، وأسلاك أعصاب بيضاء كالمعدن. فقد توازنه وهرب من أقرب نافذة في القاعة، إلى غير رجعة. قراءة مذكراته لا تخلو من ردود الأفعال الحادة هذه. مرة، وبفعل غضب فتياني عاصف قرر قتل صديقته، وأمه، ونفسه. اشترى ملابس نسائية يتخفى بها. ولكن أمره افتضح. الرائع فيه أن موسيقاه لا تخفي كيانه الفوار هذا. في أشهر أعماله "السيمفونية الفانتازية" يتابع حدث حياته ببراءة طفل. ما من فاصل بين غليان كيانه الداخلي وغليان موسيقاه.

افتتاحية بيرليوز لم تأخذ من الوقت أكثر من عشر دقائق. كانت تليق بإثارة الشهية لمزيد من الموسيقى. بالرغم من أن كونشيرتوالفايولين التالي للأميركي صمويل باربر (1910-1981) دفع على سواحلنا موجةً لا تشبه عاصفة بيرليوز. موجة بالغة الرقة والدعة، شأن أسلوبه الموسيقي عامة. جاء باربر في مرحلة أخلاها الطليعيون من كل لمسة لعاطفة، وكأنه عزاء لمن افتقد هذه العاطفة الإنسانية في موسيقى المرحلة الحديثة التي ينتمي إليها. ولقد عانى باربر حصار الطليعيين، حتى أفقدوه الثقة بنفسه. وحجبوا عنه إضاءة الإعلام إلى حين. ولكن ما من محب لتلك الدعة إلا ويتذكر عمله المحبب "الأداجيو" الشهير (وقد استُل من رباعيته الوترية الثانية، وصيغ أوركسترالياً من قبل توسكانيني. وللقارئ أن يقع عليه بيسر في You tube).

حين حلت الاستراحة، أنكرت على النفس مجرد تفكيرها بالتخلي عن الخامسة لتشايكوفسكي (1840-1893). والخامسة جاءت إلى هذا العملاق، الذي خلخله الألم، بعد سنوات انقطاع. كانت ضرباً من التحدي لتهمة النقاد (المحشوين بالنظرية). اللحن الذي تبدأ به الحركة الأولى خفيض، بطيء وكسير. تشايكوفسكي كتب تحته ملاحظة: "خضوع تام للقدر". وهو ينطوي فعلاً على هذا الهاجس. ولكن العجيب أن اللحن ذاته يُستعاد في نهاية الحركة الأخيرة، ولكن بتسارع مشرق، يشبه نشيد فرح وتوق وتفاؤل. الحركة الثانية: أغنية حب. الثالثة: رقصة فالص. وتشايكوفسكي سيد هذا الضرب الموسيقي الراقص. الحركة الرابعة: عودة كما قلت للحن الأول، ولكن بتهلل، كمن يحتفي بإرادة الرب.

حين انتهت الخامسة انتابني إحساس من سمع عملاً جديداً، فهنأت النفس على الانتظار. الفضل يرجع إلى براعة قائد الأوركسترا السويسري.