ستون عاماً على رحيله 1- 2
منتصف هذا الشهر تحل الذكرى الستون لرحيل فهد العسكر، الشاعر الأيقونة الذي فرض رمزيته الآسرة على قرائه الكثر، والذي لايزال يثير شغفهم بحكاية بؤسه وتمرده وشخصيته الغامضة المعذبة.ولد فهد العسكر ما بين عدة تواريخ افتراضية تتراوح بين 1911م و1917م. ولم يجد الشاعر من مجايليه كمحمود شوقي الأيوبي وصقر الشبيب وخالد الفرج غير ذلك الركون الأليف في ظل تقليدية محافظة لا تريم. فلم تستطع روحه الطامحة وشغفه بالمختلف والجديد إلا أن يأخذانه إلى نوافذ أخرى خارج محيطه المحلي المحدود، فوجد ضالته في الكتب الأدبية الحديثة والمجلات العربية، التي كانت تفد إلى الكويت آنذاك، والتي أصبحت زاده الثقافي والفكري وجسره نحو التواصل مع المشهد العربي وزخمه ومتغيراته. ويبدو أن الشاعر الرقيق استطاع أن يجد في موجة التيار الرومانسي حينذاك، وكانت في أوج ألقها، ضالته وهواه، فحط رحاله في كنفها وحماها. وكان بما تنكفئ عليه نفسه من هشاشة ورهافة واستعداد للشجن والشكوى، وما ينطوي عليه وجدانه من توهّج وخيال جامح، ما أعان على تكريس شخصيته الرومانسية الرقيقة المنتحبة التي عُرف بها.
ولنا أن نتصور حال الشاعر وهو يبدأ بتأسيس اختلافه وفرادته، وسط مجتمع موسوم بالمحافظة محصّن بالتقاليد، ومخلص لجملة من الأعراف الخلقية والنفسية التي جُبل عليها. وهو فوق ذلك مجتمع كان حديث عهد بالتعليم النظامي والانفتاح على تيارات الحداثة في الأدب والفكر، وبعيد عهد نسبياً بالانفتاح الاقتصادي والنهضة العمرانية والتنمية البشرية، التي لم تؤتَ أكلها إلا مطالع خمسينيات القرن الماضي بفضل العوائد النفطية وتنامي الثروة الوطنية. وقد كان من سوء حظ فهد العسكر أن مات باكراً (عام 1951م) وهو في قمة شبابه الإبداعي ونضجه الفني، فلم ينل من خيرات العهد الجديد وسعة أفقه وتقدميته غير قبض الريح! يرى المتأمل في حياة الشاعر فهد العسكر وشعره، أن جوهر المعاناة وأسّ العطب في تكوينه الوجداني والنفسي يعودان إلى صراعه (السيزيفي) الجامح مع صخرة واقع مناهض لطموحاته ورؤاه الحياتية والفكرية. وكان كلما ازداد ثقل الصخرة وعبئها وجبروتها، ازدادت مساحات الألم والصراخ، وكبُر حجم اليأس والمناكفة. وأمام هذا الصدام اليومي الدائم، يتحول الواقع المناوئ المفعم بالرفض والزجر، إلى حائط ضخم أو سجن مظلم يحول بين الشاعر وانطلاقاته الحرة في التفكير والتعبير والممارسة. ومن هنا يبدأ الانبتات والشعور بالاختلاف والاغتراب، ومن ثم الجنوح المتمرد والرفض والثورة العارمة. وقد اتخذت ثورة فهد العسكر صفة الفلسفة الحياتية والسلوكية (الجانحة)، المسفّهة للأعراف والتقاليد، المتجرأة في نقدها اللاذع على تعرية التناقضات والمفارقات، المندفعة في شذوذها وتطرفها إلى أقصى الحدود. ويبدو أن فهد العسكر وجد في موتيفات شعرية مثل (الخمر) و(الغزل الجريء) و(اللغة المكشوفة) و(الهجاء) المبطن بالسخرية والتهكم، أدوات جامحة وفعالة للتنفيس عن الغضب المتنامي والشعور بالنبذ والعزلة القسرية:هاتِ بنتَ النخل يا ابن العسكرِ لا يُطاقُ الصحوُ في ذا البلدِهكذا يضيق الوجود أمام شاعر مبتلى بصحوه ووعيه وسجنه النفسي واختلافه الموجع، فيطلب الانعتاق والحرية من خلال غيبوبة الخمر وأجنحة السُكْر حيناً، أو من خلال التماهي بالمرأة التي يتخيلها أكثر عطفاً وفهماً أحياناً أخرى. وهو في كلتا الحالتين يدخل في لعبة تحدٍ جامحة -ما دامت الخمر والمرأة خطوطاً حمراً في مجتمع محافظ- ويمعن في الغياب والاغتراب.