«هروبي إلى الحرية» كتاب عميق يستحق القراءة، وما يحويه من أفكار وفلسفة من العيار الثقيل ستجعل قارئه يعرف تماما لماذا يستحق علي عزت بيغوفيتش أن يكون أحد القادة المسلمين الذين سيخلدهم التاريخ.

Ad

كثيرون هم القادة المسلمون الذين خلدوا في ذاكرة التاريخ، لكن يبقى هؤلاء جميعا ليسوا سوى أبطال من الماضي، في حين، أن عصرنا الحديث لا تحمل ذاكرته إلا أسماء معدودة، لا تكاد تتجاوز أصابع اليد الواحدة من القادة المميزين الذين توقفت عندهم قاطرة التاريخ لتحملهم معها، في حين أن البقية الباقية ستذهب أدراج الرياح. من هؤلاء القادة المميزين، أول رؤساء جمهورية البوسنة والهرسك رئيسها الراحل علي عزت بيغوفيتش- رحمه الله- والذي توفي منذ سنوات معدودة في عام 2003.

هذا الرجل الذي حفل تاريخ نضاله السياسي بالكثير من التضحيات، لعل أهونها دخوله السجن مرات عدة إحداها لمدة 13 عاما على خلفية محاكمة سراييفو الشهيرة، تنازل عن الرئاسة طوعا وتفرغ للكتابة والفكر في الجزء الأخير من حياته، ومن أجمل ما قرأت له كتاب رائع اسمه «هروبي إلى الحرية» هو خلاصة فكرية لتلك الأعوام الثلاثة عشر التي قضاها في السجن.

يقول عنها بيغوفيتش: "كانت تلك أيام ينتظرني فيها ما يقارب ثلاثة عشر عاما من السجن، وعندما كان الموت هو الأمل الوحيد، أخفيت هذا الأمل بداخلي مثل سر كبير لا يعرفه أحد غيري، ولا يستطيعون هم تجريدي منه، وهذا الذي سيقرؤه القارئ كان هروبي إلى الحرية، ومن الطبيعي، ومع أسفي، لم يكن ذلك هروبا حقيقيا، فلم أستطع الكلام، ولكني استطعت التفكير، وقررت أن أستثمر هذه الإمكانية حتى النهاية، وأدرت منذ البداية بعض الحوارات داخل ذاتي عن كل شيء، وكل ما يخطر على البال، وعلّقت بذهني على الكتب المقروءة والأحداث في الخارج".

هذا الكتاب الممتع عبارة عن أفكار سريعة مركزة جعلها المؤلف الفذ على هيئة نقاط متتابعة ومرقمة في فصول عدة، وتناول فيها الكثير من الأشياء المهمة المثيرة للتفكير كالدين والإسلام والشيوعية والحرية والديمقراطية والسلطة، لكن القيمة الحقيقية لهذه الأفكار وكما قال بيغوفتش نفسه: "لا تكمن فيها ذاتها، إنما هي قبل الظروف التي كتبت فيها، ففي داخل السجن كان هناك هدوء جدران السجن، وفي الخارج نذر الإعصار الذي سيتحول عام 1988 إلى عاصفة تدمر حائط برلين، وتزيح عن المسرح هوينكر وشاوشيسكو وتبعثر حلف وارسو، وتزلزل الاتحاد السوفياتي ويوغوسلافيا". هذا الكتاب الذي نشرته دار الفكر المعاصر في عام 2002، يقول بيغوفيتش في فصله الأول: "أسبقية الحرية ليس ضروريا إثباتها بشيء من خارجها، فهي تؤكد ذاتها بذاتها"، كتاب عميق يستحق القراءة، وما يحويه من أفكار وفلسفة من العيار الثقيل ستجعل قارئه يعرف تماما لماذا يستحق علي عزت بيغوفيتش أن يكون أحد القادة المسلمين الذين سيخلدهم التاريخ. رحمك الله وغفر لك يا بيغوفيتش.