رحل الشيخ ناصر المحمد عن رئاسة الحكومة والمشهد السياسي، الذي شغل حيزاً هاماً منه خلال السنوات الخمس الأخيرة، رحل وترك لكل مراقب ومؤرخ سياسي أن يقيِّم هذه المرحلة، بعد أن تهدأ عواصف ومناورات شاغلي الساحة حالياً من المخلصين والمؤزمين وأصحاب المصالح، في بلد يقوم معظم حراكه السياسي على المبادرات الفردية والعصبيات بكل أشكالها الاجتماعية والعرقية والمذهبية، دون أي نظام يؤطر العمل السياسي الجماعي، رحل المحمد ليضع مرحلة فصل ولاية العهد عن رئاسة مجلس الوزراء في تقييم جدِّي، وكذلك تكتيكات التحالف والمحاصصة، التي جُرِّبت كلها مع القوى السياسية والقبلية لحماية وتحصين الحكومة.

Ad

مرحلة ناصر المحمد هي كتاب مفتوح لأخذ العبر منها لأي رئيس وزراء مقبل؛ فقد جرب خلالها المحمد كل الصيغ والتركيبات دون طائل، من حكومة القوى والكتل البرلمانية، إلى حكومة الوجهاء والقبائل، إلى حكومة توازن أجنحة الأسرة، إلى حكومة تقديم الخدمات للنواب، حتى حكومة الأغلبية البرلمانية التي أسقطتها الأقلية في الشارع!!.. لأن الحكومة لم يكن لديها "شدة" بأغلبيتها أن تواجه الأقلية. لا شك أن ناصر المحمد مرَّ بظروف مختلفة، ارتكب خلالها بعض الأخطاء، وكان ظهره مكشوفاً من بعض أبناء عمه، ولكن المقارنة المنصفة تثبت أنه لم يرتكب أخطاء تختلف عما جرى في عهود سابقة لرئاسة الحكومة، التي ورث عنها الكثير من إشكاليات وسلبيات الحاضر.

المفارقة أن مَن أسقطوا فعلياً المحمد هم أول مَن تحالف معهم ومكنهم في أول حكوماته، وهم "الإخوان المسلمين" (حدس)، إذ كانوا أول مَن تسلم منصب نائب رئيس مجلس الوزراء من القوى السياسية (د. إسماعيل الشطي)، و"حدس" أنفسهم مَن استطاعوا رغم خسارتهم الانتخابات البرلمانية الأخيرة أن يخلخلوا وضع حكوماته خلال العامين الماضيين، رغم تمثيلهم الذي لم يتجاوز في البرلمان نائباً ونصفاً (جمعان الحربش، فلاح الصواغ – قبيلة + حدس)، بل إنهم تمكنوا أن يضعوا جميع القوى السياسية في ركابهم لإسقاطه بعد إلغاء مشروع "الداو"، والعجيب أن المحمد ألغى مشروع "الداو" استجابة للقوى السياسية التي وقفت مؤخراً مع كوادر "حدس" من اتحاد طلبة وخلافه في الشارع لإسقاطه!!

المشهد في الكويت الآن تسوده هالة "الإخوان المسلمين" والبقية رتوش في الصورة لا تعلم إلى أين هي ذاهبة، وتتعامل بمنطق الموقف اليومي، وأحياناً بردة الفعل كل ساعة، ولحبها أيضاً أن تكون جزءاً من فولكلور صورة الشارع وذكريات ثورية الشوارع، بينما حدس (الإخوان) لديهم الاستراتيجية والأدوات والتمويل، والتي تعلمها السلطة تماماً، فهي التي أوجدتهم ورعتهم وربتهم، وأُسقِط في يدها، فلم تعد تستطيع أن تفعل شيئاً الآن سوى مراقبتهم دون حراك، ربما حتى يقطفوا الثمار كما حصل في تونس والمغرب وربما ليبيا ومصر، فلم تكن ثورة تونس سوى حراك احتجاجي شعبي في سيدي بوزيد، وكذلك المغرب، ولكنهم هم من استفادوا منها وقفزوا على السلطة نتيجة لها لاحقاً، وفي مصر رفضوا المشاركة والدعوة إلى تظاهرات "25 يناير" التي أطلقت الثورة، ثم التحقوا بها بعد أسبوعين في صلاة الجمعة ليحصدوا ثمار الشباب والشابات الذين أشعلوا بتضحياتهم وأرواحهم الثورة المصرية.

رحيل المحمد استُخدِم في سبيله كل وسائل التجييش الطائفية والقبلية، كما أن سعي المحمد إلى البقاء ربما جعله يجرب بعض طرق تتعدى على القانون لضمان الأغلبية، وربما أخطرها قضية الإيداعات المليونية التي سننتظر كلمة القضاء فيها، ولكن الكويت، في كل الأحوال، خسرت الكثير من استقرارها وفرص التنمية والحفاظ على وحدتها في الصراع العبثي على موقعَي رئاسة الحكومة والبرلمان، وأثبتت الأحداث أن اللعبة السياسية في الكويت بدون حدود دستورية وقانونية أو حتى أخلاقية، فلم تعد للأغلبية البرلمانية قيمة، ولا للأحكام القضائية وصلاحيات السلطات الدستورية المختلفة كذلك، وأصبحنا في حالة عبثية لن يحلها مجرد انتخابات جديدة ورئيس حكومة آخر، بل حركة تأسيسية إصلاحية شاملة لمرحلة جديدة بقواعد دستورية مطورة، لإنقاذ البلد من مواجهات الصراع الدموي على النفوذ والسلطة والثروة.