فضاء اللغة
"المعاني مطروحة في الطريق، يعرفها العجمي والعربي والبدوي والقروي، إنما العبرة في تخير اللفظ وسهولة المخرج...".حين قال الجاحظ مقولته المشهورة تلك إنما كان يهدف إلى إنهاء خصومة أزلية بين "الشكل والمعنى" في ما يتعلق بنقد الأعمال الإبداعية وتحليلها، ولكن المفارقة أن تلك المقولة وبدلاً من أن تكون النهاية للجدل الثقافي، وجدنا أنها البداية الحقيقية لأجيال متتالية تقف عندها تمحيصاً، وتحليلاً، واستشهاداً، ولعل اللافت أن الجاحظ أضاف إلى اللفظ ما بات يعرف الآن بعلم الصوتيات، وهو أحد أركان الدراسة الأسلوبية المعاصرة.
كنت أتساءل عما يميّز شعراء جيل الثمانينيات في منطقة الخليج وتحديداً في الكويت والسعودية وعمان عن أقرانهم في المحيط العربي الكبير، ولا يخفى هنا الرابط الجمالي بين نصوص هذه الحقبة، إذ يبدو أن "اللغة" هي اللاعب الأساسي فيها، فجدلية اللغة وجماليتها باتت مرتكزاً أساسياً لشعراء هذه الحقبة، وقصيدة النثر التي ولدت من رحم هذه الحقبة هي أيضاً مرتع خصب للصناعة اللغوية والتفنن فيها. إن الذائقة العربية تعتمد في جانب كبير منها على جمال الشكل، ولذلك فإن "القصيدة اليومية" التي باتت تعتمد كثيراً على الاسترسال السردي، وحكي المشاهد اليومية هي الآن في مأزق الرتابة والتكرار، وأصبحت تفقد كثيراً من دهشتها، باستثناء نصوص قليلة تعتمد على صنع "المفارقة المضمونية"، والدلالة المباغتة، وغالباً ما تكون مساحة تحرك الشاعر محدودة جداً في هذه المنطقة، بخلاف اللغة التي هي رحبة وتأتي مطواعة، لمن يملك ناصيتها. يقول د. محمد دخيسي: "جمالية اللغة الشعرية تندرج في بلاغة النص، وكونها تحافظ على البناء العام للمضمون من جهة وتحاول خرق المألوف من ناحية ثانية، فهي تمارس نوعاً من السلطة على المبدع.وللغة كذلك أثر في المتلقي من جانب مشاركته الإيجابية في تفعيل النص وتشكيل الرؤية الجمالية له. قد يكون من الصور ما يتماشى والأثر المقبول سالفاً، كأن يتعامل المبدع مع صور تقليدية دون محاولة التجديد، لكن ما فائدة هذا الإنجاز إن كان القصد من النص الإبداعي استمالة المتلقي دغدغة عواطفه النائمة؟!".واللافت أن جمالية اللغة الشعرية باتت مصدر إلهام لكتاب الرواية العربية المعاصرة، إذ بات مستهجناً أن نركض وراء الحبكة والحدث، بعيداً عن جمال اللغة، فالاستطراد اللغوي، والتفنن في الصياغة يضيفان إلى العمل الروائي جمالاً لا يقل أهمية عن الحدث ذاته، ولذلك ليس مستغرباً أن نجد الروائيين يثيرون في قرائهم حمية اللغة، مستفيدين من الذائقة العربية التي هي شعرية وشاعرية بطبعها.وفضاء اللغة ليس محدوداً بدلالة اللفظ ومعناه، وإنما يمتد إلى الجزالة، والتركيب المجازي، وتكثيف الصورة، وكلها أمور تخرج باللفظ عن فضاء "المعنى القاموسي" إلى "المعنى السياقي" بكل تجلياته، وشطحاته الجمالية، وليس مستغرباً ما نشهده من شعراء "قصيدة التفاصيل اليومية" في عودتهم الراهنة إلى حضن الجمال اللغوي، بعد أن زالت دهشة "اليومي والمهمّش"، تماماً كما كانت المدينة مصدر وحي لشعراء السبعينيات من القرن المنصرم، ليست المدينة مدهشة لذاتها، بعد أن باتت واقعاً ولد وتربى فيه كل شعراء الجيل الجديد، وإنما جمال المدينة هنا ينبع من زاوية التقاط الرؤية، وزاوية سرد المعنى عبر لغة مكثفة، ومدهشة، ومفارقة.