يوم الاثنين القادم تحل الذكرى السنوية لواحدة من أبشع جرائم الإبادة الجماعية في العصر الحديث... وأين؟ في قارة أوروبا! لقد ذبح في ذلك اليوم على يد صرب البوسنة ثمانية آلاف مسلم من سكان قرية سربرينيتشا التي اعتبرت منطقة آمنة خلال فترة الحرب الأهلية في البوسنة والهرسك (1992-1995) وحظيت بحماية وحدة عسكرية من الأمم المتحدة قوامها 370 جندياً هولندياً.
الجريمة بدأت بتحرش قوات مجرم الحرب راتكو ملاديتش بالقوات الدولية لأيام عدة ثم تطورت الأمور بإجبار الجنود الهولنديين الجبناء على خلع بزاتهم العسكرية وقبعاتهم الزرقاء لضمان الدخول السلس لسربرينيتشا، وتحت حجة نقلهم إلى أماكن أكثر أمناً تم شحن الآلاف إلى مناطق مجهولة بعد عزل الرجال عن النساء وخلال يومي 10 و11 يوليو 1995 ذبحت القوات الصربية ثمانية آلاف أعزل من أعمار مختلفة، وارتكبت جريمة بشعة أخرى هي اغتصاب النساء والفتيات، لقد اعتبرت تلك الجريمة أول عملية تطهير عرقي وإبادة جماعية في القارة الأوروبية بعد عمليات الإبادة ضد اليهود في الحرب العالمية الثانية، وتم إنشاء محكمة دولية خاصة لملاحقة مجرمي الحرب في يوغسلافيا السابقة.في يوليو 2005، أي بعد عشر سنوات من وقوع جريمة الإبادة، حضرت مراسم دفن دفعة جديدة من رفات قتلى سربرينيتشا لتغطية ذلك الحدث المهم على صفحات مجلة "العربي" ضمن استطلاع موسع نشر في أكتوبر 2005 بعنوان "البوسنة والهرسك... نار تحت الرماد". لقد احتشد أكثر من خمسين ألف مواطن بوسني من أهالي القتلى والمتعاطفين معهم يتقدمهم حضور دولي وعربي وإسلامي رسمي لأداء مراسم دفن رفات (610) شهداء تم التعرف على هوياتهم من خلال الحمض النووي، لقد كنا متراصين في مقبرة كبيرة، ولكم أن تتخيلوا مشاهد الألم والتفجع بين أقرباء الموتى والتوابيت الخضراء مصفوفة على مد النظر والقبور مفتوحة تنتظر بشوق احتضان من يراد لهم أخيراً الدفن بكرامة.لقد كانت زيارة البوسنة والهرسك كنزاً لا يوصف للوقوف على قضايا ومواضيع شتى مثل أهمية تحقيق المواطنة في دولة سكانها ينحدرون من عرق واحد هو السلاف لكنهم اختلفوا في الدين والمذاهب، فالبوشناق مسلمون والصرب مسيحيون أرثوذكس، والكروات مسيحيون كاثوليك، وكيفية علاج الصدع الوطني بعدما سالت الدماء أنهارا فيما بينهم، وقد لا يعلم الكثيرون أن البوسنة والهرسك مقسمة إلى جمهوريتين واحدة لصرب البوسنة وهي "ريبابلكا سيرباسكا"، والثانية اتحاد المسلمين والكروات وتحكمهم حكومة فدرالية ضعيفة والمناصب توزع فيها بنظام المحاصصة.القضية الثانية هي انكشاف عجز الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي على معالجة تداعيات الحرب الأهلية في البوسنة والهرسك وهي في أرضهم لولا الدور الأميركي الحاسم الذي أنقذ البوسنة بتوقيع اتفاقية "دايتون" للسلام واستخلص كوسوفا من براثن الصرب في مرحلة لاحقة.ويقف الاتحاد الأوروبي منذ سنوات أمام اختبار قبول عضوية البوسنة ذات الأغلبية المسلمة وكذلك إثبات عدم حساسيته من موضوع الدين، وليقدم مسلمو البوسنة بذلك نموذجاً مختلفاً للإسلام داخل أوروبا، كما قال لي مفتي البوسنة الأكبر الدكتور مصطفى تاريتش: "إننا بوسنيون مسلمون وأوروبيون نحترم الدستور الأوروبي، ونعتبر أوروبا دار صلح وعهد وليست دار حرب". وأضاف: "نجحنا في التوفيق ما بين تجربتنا الغربية وقيمنا وهويتنا الإسلامية التي لن نتنازل عنها".وأختم بالقول إن مسلمي البوسنة ومعهم الكروات حسموا قضية وجودهم بأنفسهم على أرض المعركة بقليل من السلاح والكثير من المقاومة والدور الدولي والعربي والإسلامي أتى مكملاً لجهودهم.
مقالات
الأغلبية الصامتة: سربيرنيتشا... ذكرى لا تُمحى
07-07-2011