مدينة الدوحة هي اسم على مسمى حقيقي، فهي دوحة للراحة والسكينة والاستجمام، سكينتها تحل على الروح والبدن والأعصاب بمجرد المثول فيها، وصدق مَن سماها دوحة، ولا أدري إن كان قد شعر بكينونتها الهادئة الممتدة في اتساع منبسط ما بين الأرض والبحر، "شساعة" بصرية لا تُشعر مشاهدها بأي اكتظاظ أو ازدحام أو اختناق وفوضى، حتى هذه الأبراج المشرئبة بأجسامها إلى السماء، لا تثقل المكان بكتلة وجودها، فهي مصممة بطريقة بناء هلالي، يحيط بأطراف العاصمة كسوار ليس منبثقاً أو منتوقاً من بطنها، مما يوحي بخفتها ولطافة حضورها وجمال إحاطتها بالمدينة، بأضوائها السحرية واتساق هندسة معمارها، هندسة أبقت على سكينة المكان وحافظت على اتساعه وفلسفة فراغه وهدوئه الذي يسدل الراحة على النفس والروح والعقل، وهذا ما تفتقده المدن الأخرى وعلى وجه الخصوص الكويت.

Ad

استفاد المواطن القطري من هذا الاتساع في المدينة وطرقاتها بشكل جلي واضح انعكس عليه وعلى مدينته، فعلى مستوى الطرق ليس هناك أي ازدحام فيها، كما أن شوارعها لا تسابق إلى الموت، أو إلى صراع دموي لمن استبق فيها.

إنها طرق منسابة بهدوء وسعة من دون تلك الأجساد الأسمنتية الفظيعة المسماة بالجسور وبالأنفاق الرابضة على جسد مساحات المدن، والآكلة من بدنها والقارضة لسكينتها بضجيج قرقعة العبور عليها.

أما بالنسبة للمواطن ففضلها عليه واضح جلي، فبنظرة سريعة تلاحظها على وجوه وسلوكيات القطريين الذين مازالوا محتفظين بهدوئهم الروحي والعقلي والجسدي، فإنك تشعر بسكينتهم وبهدوء مشيتهم وحركتهم وطريقة تعاملهم، كأن الزمن عندهم لا يهرول ولا يمثل أي ضغط نفسي وعصبي عليهم، اللهم لا حسد، لكنها كتابة من روح فرحة بأنه لا تزال هناك عاصمة خليجية محتفظة بسكون أصالة طبيعتها وفطرتها الأولية، الشيء الذي ذكرني بالكويت حين كانت تمتلك براءتها الأولى وزمنها الهادئ من قبل أن يأكلها غول التوسع وطوفان الازدحام والضجيج والنمو الفادح، وبكل ما طرأ عليها مما جعل الوقت فيها يمر مثل البرق دون إنجاز شيء، وبات سلوك الناس، مثل كهرباء الضغط العالي، صاعقا في أي وقت، فهو انعكاس لزمن لاهث في مدينة تختنق من الازدحام الذي أصبح سمة لكل شيء فيها من طرق ومبان قامت من دون أي حسابات لأهمية وجمالية الفراغات فيها، فالأسواق بلا حصر، والمولات ليس لي علم بعددها، لكنها بلا شك أكثر من مولات مدن كبرى مثل لندن وباريس وبرلين وإيطاليا، والأسواق الشعبية والجمعيات التعاونية تحولت إلى مولات، وأغلبية الأبراج تحتوي مولات في مبناها، وكأنه شرط أساسي لقيامها حتى أصبح التسابق والزحام هما السمة العامة، كثرة وفيضان في كل شيء، حتى انعكس التعريف الذي كان يُطلق على المدن قديماً، وهو أن المدينة بيوت وفيها بعض الأسواق، فتحولت الكويت إلى أسواق فيها بعض البيوت.

المدن التي لا تحتسب فراغاتها الروحية تقود إلى الشعور بالضيق وبالاختناق، وهو الأمر الذي احتسبته دولة قطر، لذا بات الفراغ له مساحات محترمة فيها، وأرجو لهذا الفراغ ألا يختطفه مستقبل النمو المهرول على عجل.

في قطر، عدد محدود من أمكنة أُعدت للثقافة وللتسلية وللتسوق والمتعة وقضاء الوقت فيها، مثل سوق "واقف" الممتلئ بالمقاهي والمطاعم والصناعات الشعبية، وهو مكان يرتاده الجميع، وهناك مكان نخبوي مثل اللؤلؤة بمقاهيها ومطاعمها الفاخرة وبوتيكاتها ذات الماركات العالمية الفخمة.

وهناك متحف الفن الإسلامي الرائع الذي يستضيف في كل شهر أشهر الأعمال الفنية ذات المستوى الرفيع الذي شاهدت فيه درة متحف دريسدن، وأيضا هناك قطارة المركز الثقافي المتوج بدار أوبرا وبمسرح روماني وأكاديمية للفنون الموسيقية، ومعارض لفنون مختلفة ومسجد مبني بطراز رائع كتحفة معمارية، وعدد محدود من المولات يحمي الناس من استغلال التجار لجيوبهم ومن انتشار الروح الاستهلاكية التي يعرفون كيف يستفيدون من تنميتها ومن زيادة نشرها وتوسعها بالإغراءات وبالإعلانات التي لا تفلت أي مخلوق من شبكتهم.

ويبقى الحدث الكبير الممثل في هذه الملاعب الأولمبية التي هي مفخرة عربية قادمة ومقتحمة بقوة للصدارة العالمية.

أماكن محدودة لكنها مميزة جداً، وليست العبرة في الكثرة، بل في ما تحققه من توازن نفسي وروحي في حياة عالم بدأ يفقد توازنه الروحي والعقلي معاً.