رسالة إلى الصامتين الأخيار
كتب زعيم النضال اللاعنفي لحركة الحقوق المدنية في أميركا مارتن لوثر كينغ رسالته الخالدة من سجنه في مدينة برمنغهام، تلك الرسالة التي كُتِبت على حواشي الصحف أصبحت اليوم درساً أخلاقياً لأجيال عديدة من المناضلين من أجل الحرية والعدالة... وقد رد لوثر كينغ من خلالها على رجال الدين الذين استنكروا دعوته إلى الاحتجاجات السلمية على مظالم التمييز العرقي ضد الأميركيين الأفارقة، والتي واجهتها الشرطة بخراطيم المياه والكلاب البوليسية والضرب بالهراوات، وصدر على إثرها قانون يمنع المظاهرات والاعتصامات.وجه لوثر كينغ رسالته إلى مَن يدّعون العقلانية ويطالبون بالتهدئة ويصفون الاعتصامات بـ»غير الحكيمة وغير الملائمة في التوقيت»... فعاب عليهم مخاوفهم من التأجيج بينما لم يهتموا بنفس القدر بالأسباب التي أدت إلى التوتر... لا يعتبر كينغ تحريضه على التوتر استهتاراً، بل هو تحرك حتمي لاستنفاد كل السبل بعد انسداد الأفق وتلاشي كل الآمال. وقد حدد كينغ في حملته السلمية أربع خطوات: جمع الأدلة التي تثبت وقوع الظلم، والتفاوض، وتطهير النفس، والاعتصامات السلمية، ليعمل ورفاقه على تطهير النفس وانتشالها من غمامة اليأس التي حاصرتهم وأظلمت دروبهم، فقد أوصدت كل الأبواب ولم يبق سوى الحراك السلمي والسعي إلى تأجيج التوتر الإيجابي الذي لا ينبغي أن نخاف منه إطلاقاً، فهو توتر بنّاء وضروري لحركة النمو والتطور... تماماً مثلما آمن سقراط (كما يصف كينغ) بضرورة خلق التوتر في عقول الشباب كي يتحرروا من عبودية الخرافات وأنصاف الحقائق.
وفي رده على التبريرات العقيمة بأن «الوقت غير مناسب لتنفيذ مطالباتكم» أو «أعطوا الحكومة فرصة لكي تعمل» يؤكد كينغ أن للتاريخ قصة طويلة تراجيدية تعلمنا أحداثها أن الحريات والحقوق لا يهبها النهج السلطوي ولا يعطيها طوعاً، إنما تُكتَسب عبر الضغط والمطالبات السلمية المشروعة. فلم يكن ولن يكون إطلاقاً التوقيت مناسباً للمستفيدين وأصحاب الامتيازات. فكلمة «انتظروا» التي اعتادوا سماعها سنوات، تحوّل معناها كما يعبر كينغ إلى «انتظروا إلى الأبد»... فأضحت كالمُسكِّن الذي يخفف الأعراض مؤقتاً، بينما يتسبب في استفحال داء الإحباط... فتأجيل تحقيق العدالة إلى الأبد هو اللاعدالة. الانحياز إلى الاحتجاج السلمي من أجل تحقيق العدالة أسمى من الخضوع لقوانين جائرة، فالقوانين خُلِقت من أجل تحقيق العدالة. وعدم احترام قانون جائر من أجل استفزاز الضمائر هو تعبير في الحقيقة عن احترام القانون، على أن تتوافر شروط العلانية والاستعداد لتقبل العقوبة كما يؤكد كينغ... إن الأمر الذي يبعث على الإحباط في رأي كينغ هو ليس «ظلم الأشرار وإنما صمت الأخيار» الذين يفضلون السلام السلبي الذي يبقى فيه التوتر مختبأً تحت الأرض على السلام الإيجابي الذي يحرك المجتمعات نحو تحقيق العدالة، فلم يكن المشاركون في الاحتجاجات السلمية سبب التوتر إنما نتيجته، هم فقط يسعون إلى فقأ الدمامل وتطهير الجروح وتعريضها للهواء والنور، فلا دواء إلا بتعريض المظالم لنور الضمير الإنساني وهواء الرأي العام... تلك هي القنوات الطبيعية الصحية للحد من العنف أو الانفجار، ذلك ليس تهديداً كما يقول كينغ إنما هي حقيقة تاريخية.لذا لا يمكن كما يقول كينغ الاستكانة للفكر الخاطئ بأن الوقت سيعالج لا محالة كل العلل، فالوقت محايد، إما أن نستثمره بشكل بنّاء أو بشكل هدّام، والسيئون يستخدمون الوقت بشكل أفضل من الأخيار الصامتين، وبدون العمل الدؤوب سيغدو الوقت أفضل حليف للركود والجمود.لقد «هرم» الأميركيون الأفارقة في ذلك الزمن من الانتهاكات والممارسات الظالمة فتبنوا المنهج الأخلاقي اللاعنفي المشروع، فاجتمعت حوله مختلف التوجهات مستخدمين وسيلة نبيلة للوصول إلى غاية نبيلة وفق القيم المدنية والديمقراطية... فاستحقوا الحرية والعدالة والكرامة الإنسانية.