عاقبة الجهل الاقتصادي

نشر في 25-11-2011
آخر تحديث 25-11-2011 | 00:01
 بروجيكت سنديكيت إن الساسة بارعون في «تمرير المسؤولية» إلى الآخرين، فكل ما يقع من أحداث طيبة يعكس مواهبهم الاستثنائية وجهودهم الفريدة؛ وكل ما يقع من أحداث سيئة يرجع إلى شخص أو شيء آخر.

والاقتصاد هو المجال التقليدي لهذه الاستراتيجية، فبعد مرور ثلاثة أعوام بعد اقتراب الاقتصاد العالمي من الانهيار الكامل، تلاشى التعافي الهزيل في أغلب الدول المتقدمة، التي نخشى أن يتسبب جمودها الاقتصادي في سحب بقية البلدان إلى القاع معه، ويلقي الخبراء باللائمة على الركود المزدوج، ولكن في بعض البلدان لم تنته موجة الركود الأولى حتى الآن: حيث كان الناتج المحلي الإجمالي اليوناني في انحدار طيلة الأعوام الثلاثة.

وعندما نسأل الساسة عن تفسير لهذه النتائج المؤسفة، يجيبون في صوت واحد: «هذا ليس خطأنا»، فقد خرج التعافي عن مساره كما يزعمون دوماً بسبب أزمة منطقة اليورو، ولكنهم بهذا يقلبون المسألة رأساً على عقب، ذلك أن أزمة اليورو لم تتسبب في انحراف التعافي عن مساره؛ بل إنها كانت نتيجة للافتقار إلى التعافي. وهي النتيجة الطبيعية المتوقعة (في نظر العديد من الخبراء) للسياسة المتعمدة التي انتهجتها الدول الأوروبية الرئيسة لقمع الطلب الكلي.

وكان من المقدر لهذه السياسة أن تسفر عن أزمة مالية، لأنها كان من المحتم أن تترك الحكومات والبنوك مع أصول مستنفدة وديون أكبر. وعلى الرغم من التقشف فإن توقعات العجز البنيوي في المملكة المتحدة لهذا العام ارتفعت من 6.5% إلى 8%، الأمر الذي يتطلب تخفيضات سنوية إضافية بما يعادل نحو 22 مليار جنيه إسترليني (34.6 مليار دولار أميركي). ويلقي رئيس الوزراء ديفيد كاميرون، والمستشار جورج أوزبورن، باللوم على أزمة منطقة اليورو؛ ولكن الحقيقة هي أن جهلهما الاقتصادي هو المسؤول.

ومن المؤسف بالنسبة إلينا جميعاً أن هذا التفسير يحتمل التكرار في الوقت الحاضر. فالكساد، أو الركود، أو الانكماش- سمه ما شئت- يحدث لأن القطاع الخاص ينفق أقل مما تعود على إنفاقه من قبل. وهذا يعني هبوط دخله، لأن الإنفاق من جانب شركة أو أسرة ما يشكل دخلاً لشركة أو أسرة أخرى.

وفي ظل هذا الوضع فمن الطبيعي أن يرتفع العجز الحكومي، مع انحدار العائدات الضريبية والإنفاق على تأمين البطالة وغير ذلك من الفوائد الاجتماعية. والواقع أن مثل هذه «المثبتات التلقائية» تساعد في سد جزء من فجوة الإنفاق في القطاع الخاص.

ولكن إذا بدأت الحكومة بخفض عجزها قبل تعافي الإنفاق في القطاع الخاص، فسوف تكون النتيجة في نهاية المطاف المزيد من الانحدار في الإنفاق الكلي، وبالتالي في الدخل الإجمالي، وهذا يعني بدوره ارتفاع العجز الحكومي وليس انخفاضه. صحيح أن العجز سوف يهبط في نهاية المطاف إلى الصفر إذا توقفت الحكومات تماماً عن الإنفاق، وسوف يتضور الناس جوعاً في غضون ذلك، ولكن الميزانية سوف تتوازن.

هذا هو المنطق المجنون الذي تستند إليه السياسة الاقتصادية الحالية في أغلب بلدان أوروبا (وأماكن أخرى). ومن المؤكد أن هذا لن يستمر إلى النهاية المريرة. ذلك أن الكثير سوف يتصدع على طول الطريق: البنوك، والنظام النقدي، والتماسك الاجتماعي، وشرعية النظام السياسي. وربما يعاني ساستنا تخلفا فكريا لكنهم ليسوا انتحاريين، ففي نهاية المطاف سوف يتم تجميد عملية خفض العجز، سواء بشكل صريح كما أفضل، أو خلسة كما تعود الساسة، وفي المملكة المتحدة، بدأ الحديث بالفعل عن خطة بديلة.

إن هؤلاء الذين يدركون الحاجة لاستراتيجية نمو كهذه، ولكنهم يريدون أيضاً أن يساعدوا أصدقاءهم، يعشقون فكرة خفض الضرائب، وخاصة المفروضة على الأثرياء. وهذا من شأنه أن يخلق ثغرة في خطط خفض العجز الحالية، ولكن في حالة استمرار الحكومة في خفض الإنفاق، فإن هذا ينطوي على فائدة (من وجهة نظر محافظة) تتمثل بتقليص دور الدولة بمرور الوقت.

وبعيداً عن القضايا المتصلة بالعدالة والإنصاف، فإن خفض المعدلات الضريبية العليا يشكل وسيلة هزيلة لزيادة الإنفاق، لأن الأثرياء أكثر ميلاً إلى الادخار. أي أن الخفض الضريبي لابد أن يكون موجهاً بشكل خاص إلى الفقراء إذا كنا نريد لهذه الأموال أن تنفق لتحفيز الاقتصاد.

والواقع أن الخيار الأفضل على الإطلاق هو أن تتولى الحكومة الإنفاق بنفسها. وبوسع الحكومات أن تفعل هذا بما يتوافق مع خطة لخفض العجز في الأمد المتوسط من خلال التمييز الواضح بين الحساب الجاري وحساب رأس المال في موازناتها. فالحساب الجاري يغطي الإنفاق على الخدمات والسلع المستهلكة التي لا تنتج أي أصول. أما حساب رأس المال فيخصص لشراء أو بناء الأصول المعمرة التي تدر عائداً محتملاً في المستقبل، والأول يشكل رسماً على الضريبة؛ ولا ينطبق هذا على الثاني.

إذا كانت القواعد المحاسبية اليوم تفتقر إلى الحس بالقدر الذي يجعلها عاجزة عن اتخاذ هذا القرار، فمن الممكن أن يتولى كيان منفصل الاستثمار، حيث تقوم الحكومة بتمويل بنك استثماري وطني، فيقترض من القطاع الخاص، ثم ينفق على البنية الأساسية والإسكان و»تخضير» الاقتصاد، وهذا من شأنه أن يعمل في نفس الوقت على سد الفجوة في الطلب وتحسين توقعات نمو الاقتصاد في الأمد البعيد. وهناك من العلامات ما يشير إلى أن المسؤولين في المملكة المتحدة والولايات المتحدة بدؤوا بالتحرك في هذا الاتجاه.

وإذا لم يفلح أي من هذا فإنه يعني أن الوقت قد حان لرش البلاد بما أطلق عليه ميلتون فريدمان «أموال الهليكوبتر»- بمعنى توجيه القوة الشرائية إلى جيوب الناس مباشرة، من خلال منح كل أسرة قسيمة إنفاق تحمل تاريخ صلاحية. وهذا من شأنه أن يعمل في أقل تقدير على الإبقاء على قدرة الاقتصاد على الوقوف على قدميه في انتظار تطور برنامج الاستثمار الأطول أمدا.

والأفضل من ذلك أن يتم الاتفاق على مثل هذه المخططات من قِبَل كل بلدان مجموعة العشرين، كما كانت الحال لفترة وجيزة أثناء عمليات التحفيز المنسقة في إبريل 2009. وإذا لم يحدث ذلك فيتعين على مجموعات من الدول أن تتولى تنفيذ هذه المخططات بنفسها.

إن الاتحاد الأوروبي في حاجة ماسة إلى استراتيجية للنمو، ولا تساعد مخططات الإنقاذ الحالية إلا بلدان مثل اليونان وإيطاليا لكي تقترض بتكاليف زهيدة في مواجهة أسعار الفائدة الباهظة في السوق، في حين يؤدي إصرار هذه المخططات على المزيد من خفض عجز الموازنات في هذه الدول إلى تفاقم ضعف القوة الشرائية الأوروبية، ويتعين على الحكومات المتلقية أن تخفض إنفاقها؛ كما يتعين على البنوك أن تتحمل خسائر ضخمة.

وفي الأمد البعيد، لابد أن ننظر إلى منطقة اليورو باعتبارها تجربة فاشلة، وينبغي إعادة هيكلة منطقة اليورو بعدد أقل من الدول الأعضاء، بما في ذلك الدول التي لا تعاني عجزا مزمنا في الحساب الجاري. أما كل ما اقتُرِح غير ذلك لإنقاذ منطقة اليورو في هيئتها الحالية- خزانة مركزية، وسلطة نقدية مكلفة بالقيام بما هو أكثر من استهداف التضخم، والمواءمة المالية، ومعاهدة جديدة- فهو في واقع الأمر ليس أكثر من أضغاث أحلام سياسية.

* روبرت سكيدلسكي، عضو مجلس اللوردات البريطاني، وأستاذ فخري لعلوم الاقتصاد السياسي بجامعة وارويك.

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top