قلت في مقال الأحد الماضي إن الانحراف التشريعي كان لحمة التعديلات الدستورية وسداها قبل ثورة الخامس والعشرين من يناير، كما اقترن تعديل المادة (76) بعد الثورة الذي جرى الاستفتاء عليها في 19 مارس سنة 2011، بتعديل المادة (75) من الدستور التي تحدد الشروط الواجب توافرها في مَن يُرشح للرئاسة، وهو تعديل لم يخلُ كذلك من انحراف تشريعي، لإقصاء العالم الكبير الدكتور أحمد زويل عندما عدلت هذه المادة لتحجب رئاسة مصر عن المتزوج بغير مصرية، حيث جاء الحظر مطلقا، ليشمل الزواج ولو من عربية، لأن العالم الجليل الدكتور أحمد زويل متزوج من سورية، وهو ما أوقع التعديل في تناقض بيّن مع أحكام المادة الأولى من دستور 1971 التي تنص على أن "الشعب المصري جزء من الأمة العربية يعمل على تحقيق وحدتها".
وهو التناقض الذي وقع فيه كذلك الإعلان الدستوري الصادر في 30 مارس من المجلس الأعلى للقوات المسلحة، والذي تبنى التعديل الدستوري والمادة الأولى من دستور 71.وأساس هذا التناقض أن التزاوج بين أبناء الأمة الواحدة يقوي أواصرها ويسرع في تحقيق وحدتها.ولعل أول من أدرك هذه الحقيقة هو الرسول عليه الصلاة والسلام عندما صاهر أعداءه الذين هزمهم استرضاءً لعدوه بعد هزيمته، وعندما تزوج بنت زعيم المشركين أبي سفيان، فقد كان غاية الرسول أن يوحد ولا يفرق.وقد كان ملوك وأمراء أوروبا وبريطانيا يتصاهرون فيما بينهم لتقوية الروابط بين بلادهم فقد زوج هنري السابع ملك بريطانيا شقيقته الصغرى ماري تيودور من ملك فرنسا لويس الثاني عشر، وتزوج تشارلز الأول ملك بريطانيا من شقيقة ملك فرنسا لويس الثالث عشر.ولعل المشرع المصري قد أدرك هذه الحقيقة، عندما كان قانون مجلس الدولة رقم (74) لسنة 1972 يحظر في المادة (73) تعيين من يكون متزوجا بأجنبية عضوا في مجلس الدولة، فأورد استثناء من هذا الحظر خص به من يتزوج بعربية. وعلى العموم فقد قضت المحكمة الدستورية العليا في مصر بعدم دستورية هذا الحظر على إطلاقه في أحد أحكامها العظيمة، وهو الحكم الصادر بجلسة 18/3/1995 في الطعن رقم (23) لسنة 16 قضائية دستورية، وأسست قضاءها على إخلال هذا الحظر بالحقوق والمبادئ الدستورية التالية:أولاً: إهدار الحرية الشخصيةالتي صانها الدستور في ما نصت عليه المادة (41) من دستور 1971 من أن الحرية الشخصية حق طبيعي وهي مصونة لا تمس.ولما كانت الحرية الشخصية هي أصل يهيمن على الحياة بكل أقطارها، لا قوام بدونها، إذ هي محورها وقاعدة بنيانها، فإن الحق في الزواج وما يتفرع عنه من تكوين أسرة وتنشئة أفرادها، هو أحد الحقوق التي تندرج تحت الحرية الشخصية، وهو أحد الحقوق التي لا تكتمل الحرية الشخصية في غيبتها.ثانياً: إهدار حرمة الحياةالخاصة وقد صان الدستور المصري حرمة الحياة الخاصة في المادة (45) في ما نصت عليه من أن "لحياة المواطنين الخاصة حرمة يحميها القانون".ولئن كانت بعض الوثائق الدستورية لا تقرر حق الزواج وحرية اختيار الزوج أو الزوجة بنص صريح، فإن البعض يعتبرهما من أشمل الحقوق وأوسعها، وهما كذلك أعمقها اتصالا بالقيم التي تدعو إليها الأمم المتحضرة احتراماً للحق في الخصوصية.ثالثاً: الأسرة أساس المجتمعكما استندت المحكمة الدستورية كذلك إلى الأصل المقرر وفقاً لنص المادة (9) من الدستور من أن الأسرة أساس المجتمع قوامها الدين والأخلاق والوطنية، وكان على الدولة- بناء على ذلك- أن تعمل على الحفاظ على طابعها الأصيل، ولا يعدو الحق في اختيار الزوج أن يكون مدخلها باعتباره طريق تكوينها.رابعاً: مخالفة أحكام الشريعة الإسلاميةحيث جاء في القرآن الكريم (إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوْا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ٱللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)، والإسلام يحض على الزواج لمعانٍ اجتماعية ونفسية ودينية باعتباره عقداً يفيد حل العشرة- على وجه التأبيد- بين الرجل والمرأة ويكفل تعاونهما، والنصوص القرآنية تدعو إليه وتصرح به، إذ يقول تعالى:(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً).خامساً: المواثيق الدوليةواستندت المحكمة الدستورية كذلك إلى المواثيق الدولية التي تؤيد حق اختيار الزوجة (المادة 16 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان)، والمادة (5) من الاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري (21/ 12 /1965)، والمادة (23) من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية (16/12/1966)، والمادة (6) من إعلان القضاء على التمييز ضد المرأة (7/11/1967)، والمادة (16) من اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (18/12/1979)، والمادة (8) من الاتفاقية الأوروبية لحماية حقوق الإنسان وحرياته الأساسية والموقع عليها في روما بتاريخ 4/11/1950 من الدول الأعضاء في مجلس أوروبا التي تنص على حق كل شخص في ضمان الاحترام لحياته الخاصة ولحياته العائلية ولا يجوز لأي سلطة عامة التدخل مباشرة في هذا الحق إلا وفقاً للقانون، وفي الحدود التي يكون فيها هذا التدخل ضرورياً في مجتمع ديمقراطي لضمان الأمن القومي أو سلامة الجماهير أو رخاء البلد اقتصادياً، أو لتوقي الجريمة أو انفراط النظام، أو لصون الصحة أو القيم الخلقية، أو لحماية حقوق الآخرين وحرياتهم.سادساً: الإخلال بمبدأ المساواة أمام القانونوحيث إن الدساتير المصرية جميعها بدءاً بدستور 1923 وانتهاء بدستور 1971، رددت جميعها مبدأ المساواة أمام القانون، وكفلت تطبيقه على المواطنين كافة باعتباره أساس العدل والحرية والسلام الاجتماعي، وعلى تقدير أن الغاية التي يستهدفها تتمثل أصلاً في صون حقوق المواطنين وحرياتهم في مواجهة صور التمييز التي تنال منها أو تقيد ممارستها.ولئن كان الدستور المصري لسنة 1971 قد نص في المادة (40) منه على حظر التمييز بين المواطنين في أحوال بيّنتها، وهي تلك التي يقوم التمييز فيها على أساس الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين أو العقيدة، فإن إيراد الدستور لصور بذاتها يكون التمييز محظوراً فيها، مرده أنها الأكثر شيوعاً في الحياة العملية ولا يدل البتة على انحصاره فيها إذ لو صح ذلك لكان التمييز بين المواطنين في ما عداها جائزاً دستورياً، وهو ما يناقض المساواة التي كفلها الدستور، ويحول دون إرساء أسسها وبلوغ غاياتها.هذا بعضٌ مما جاء من مبادئ دستورية أخل بها قانون مجلس الدولة عندما حظر على من يعين في مجلس الدولة الزواج بأجنبية، وهو حظر أقل تشدداً من الحظر الوارد في المادة (75) من دستور 1971- بعد التعديل الدستوري- الذي ينص على حظر الزواج بغير مصرية، لإقصاء العالم الكبير د. أحمد زويل من سباق انتخابات الرئاسة المصرية.
مقالات
ما قل ودل: إقصاء أحمد زويل كان هدفاً مقنناً
02-10-2011