المستشارة التي لعبت بالنار

نشر في 14-02-2012
آخر تحديث 14-02-2012 | 00:01
 بروجيكت سنديكيت لا بد أن تكون المستشارة أنجيلا ميركل سعيدة في الوقت الحاضر: فشعبية حزبها ليست سيئة، وشعبيتها جيدة للغاية، ولم يعد هناك منافسون جادون لها داخل الاتحاد الديمقراطي المسيحي الذي ينتمي إلى يمين الوسط، في حين تفتت المعارضة اليسارية إلى أربعة أحزاب، وكانت الغَلَبة لاستجابتها للأزمة الأوروبية أو على الأقل هذا هو الانطباع الذي تنقله، والذي يصدقه أغلب الألمان، أي أن كل شيء على ما يرام، أليس كذلك؟

ليس بهذه السرعة، فهناك قضيتان قد تكون أي منهما كافية لتعقيد إعادة انتخاب ميركل في خريف عام 2013، ففي الداخل بدأ شريكها الليبرالي في الائتلاف، الحزب الديمقراطي الحر، يتفكك. وحتى إذا تمكن الحزب الديمقراطي الحر من النجاة في الانتخابات القادمة (وهو أمر غير مؤكد على الإطلاق)، فإن الائتلاف الحالي من غير المرجح أن يحتفظ بأغلبيته البرلمانية، وهو ما من شأنه أن يجعل ميركل أكثر اعتماداً على الحزب الديمقراطي الاجتماعي. وفي حين أن هذا الأمر لا ينبغي له أن يزعجها كثيراً ما دامت تحتفظ بمنصب المستشار، فإنها تواجه في شخص سيجمار جابرييل، زعيم الحزب الديمقراطي الاجتماعي- وللمرة الأولى- خصماً لا ينبغي لها أن تستخف به على الإطلاق.

ولكن الخطر الحقيقي الذي يهدد ميركل آت من الخارج: الأزمة الأوروبية، فإذا تخلى عنها الحظ فإن الأزمة سوف تبلغ ذروتها مع بداية عام الانتخابات الألمانية، وكل الحسابات السابقة قد تصبح عديمة القيمة، لأن الناخبين الألمان سوف يعاقبون بشدة هؤلاء الذين سمحوا لأوروبا بالفشل، على الرغم مما تسببه أوروبا من إحباط للألمان.

إن اقتصاد الاتحاد الأوروبي ينزلق إلى ركود حاد، وطويل الأمد في الأرجح، وهو الركود الذي جلبه الاتحاد على نفسه إلى حد كبير. وفي حين لا تزال ألمانيا تحاول إبعاد شبح التضخم المفرط بالاستعانة بتدابير التقشف الصارمة في منطقة اليورو، فإن بلدان الأزمة في الاتحاد الأوروبي تواجه تهديد الانكماش الحقيقي، مع عواقب من المحتمل أن تكون مأساوية. وهي مسألة وقت- ولم يعد هذا الوقت طويلا- قبل أن يؤدي عدم الاستقرار الاقتصادي إلى زعزعة الاستقرار السياسي.

والواقع أن المجر، حيث يبدو تراجع الديمقراطية راسخا، تشكل نذيراً لأوروبا، حيث تتفاقم أزمة اليورو ويستمر الانكماش، وفي بلدان الاتحاد الأوروبي الواقعة على البحر الأبيض المتوسط، وكذلك في أيرلندا، أصبح المزاج حادا، ليس بسبب اشتداد قبضة التقشف فحسب، بل أيضا- وربما الأهم من ذلك- بسبب غياب السياسات التي تمنح الناس الأمل في مستقبل أفضل. ولكن الطبيعة المتفجرة للاتجاهات الحالية، والتي تشير إلى إعادة تأميم السيادة في نهاية المطاف من الأسفل إلى الأعلى، تلقى قدراً عظيماً من الاستخفاف في برلين.

والآن وصلت الأزمة إلى إيطاليا وتهدد بالامتداد إلى فرنسا، وتحت قيادة رئيس الوزراء ماريو مونتي، حشدت إيطاليا أفضل رجالها، ولن تحظى إيطاليا ولا أوروبا بحكومة أفضل في المستقبل المنظور. وإذا أطيح بإدارة مونتي- سواء في البرلمان أو في الشوارع- فإن رابع أكبر اقتصاد في الاتحاد الأوروبي قد ينهار. والآن يطالب مونتي بالمساعدة العاجلة، ولكن من أين تأتي المساعدة؟

لا ينبغي لنا أيضاً أن نستخف بالتطورات في فرنسا (ثاني أضخم اقتصاد في منطقة اليورو) في عام الانتخابات الرئاسية الحالي. فإذا وصلت أغلبية الفرنسيين إلى اقتناع مفاده أن مسار العمل يُفرَض عليهم من الخارج- وخاصة من جانب ألمانيا- فسوف يردون بالعناد الغالي التقليدي.

وما هو على المحك الآن ليس نتيجة الانتخابات في الأساس، بل الهامش بين الرئيس نيكولا ساركوزي وزعيمة الجبهة الوطنية اليمينية المتطرفة ماري لوبان، وما إذا كانت قادرة على التفوق عليه في التأهل للجولة الثانية من انتخابات الإعادة ضد المرشح الاشتراكي. ورغم أنها من غير المرجح أن تفوز بالرئاسة، فإنها قد تنجح في إعادة تشكيل وتنظيم اليمين الفرنسي، ولهذا السبب فإن هزيمة ساركوزي من شأنها أن تحد بشكل كبير من حيز المناورة المتاح لخلفه الاشتراكي في عالم السياسة الأوروبية، وهذا كفيل بتبديل موقف فرنسا في أوروبا بشكل جوهري.

ولكن في حين تتوقف نتيجة الانتخابات الفرنسية إلى حد كبير على السياسات المتبعة في التصدي للأزمة الأوروبية، فإن الحكومة الألمانية تتصرف وكأن الأمر لا يخصها على الإطلاق، بل إن الموضوع الرئيسي- والوحيد تقريبا- في برلين هو الانتخابات المقبلة. والسؤال الرئيسي الآن ليس "ماذا يتعين علينا أن نفعل الآن لتحقيق مصلحة أوروبا؟"، بل هو: "ما المدى الذي قد يتقبله الشعب الألماني وخاصة المدى الذي قد يتقبله من الصدق؟"

لا أحد قد يتصرف على النحو الذي قد يعرض فرصه الانتخابية للخطر، على الأقل ما دامت البدائل متاحة، لذا فمن المتصور ألا تكون ألمانيا مهتمة على الإطلاق ببذل جهود جادة لحل أزمة أوروبا، لأن هذا يعني تحمل قدر عظيم من المجازفة واستثمار مبالغ هائلة من المال.

والواقع أن زعماء التحالف بين الاتحاد الديمقراطي المسيحي والحزب الديمقراطي الحر يفضلون تلطيف الوضع من خلال إقناع أنفسهم بوجود مؤامرة أنجلوسكسونية بتحريض من هؤلاء في بلدان الأزمة الأوروبية غير الراغبين في الأداء والإصلاح والذين لا هدف لهم سوى إرغام الألمان على الدفع. وحتى الآن كان ائتلاف ميركل يتصرف وكأنه شخص يقود سيارته عكس حركة المرور وهو على يقين تام من أن الجميع غيره يسيرون في الاتجاه الخاطئ.

لقد قطعت عملية تفكك أوروبا شوطاً أطول كثيراً مما قد يبدو لنا. ذلك أن حالة من انعدام الثقة والأنانية أصبحت في انتشار سريع، وهي تلتهم الآن التضامن الأوروبي والهدف المشترك.

على المستوى المؤسسي، كانت أوروبا على المسار الصحيح منذ القمة الأخيرة، ولكنها تهدد بالتفكك من الأسفل إلى الأعلى، ولإنقاذ اليورو- الذي يشكل ضرورة أساسية نظراً لتوقف مصير المشروع الأوروبي على نجاح الاتحاد النقدي- فيتعين على أوروبا أن تبدأ العمل على الفور: فإلى جانب تدابير التقشف والإصلاحات البنيوية التي لا غنى عنها، لا يوجد سبيل آخر للنجاح غير الاستعانة ببرنامج اقتصادي قابل للتطبيق وقادر على تأمين النمو.

ولن يتأتى هذا بثمن بخس، وإذا كانت حكومة ميركل تتصور أن التشدق بالنمو فيه الكفاية فإنها تلعب بالنار، ولهيب انهيار اليورو لن يصيب الألمان فقط بحروق بالغة.

* يوشكا فيشر كان وزيراً لخارجية ألمانيا ونائباً لمستشارها أثناء الفترة 1998-2005، وأحد زعماء حزب الخضر الألماني البارزين لما يقرب من عشرين عاما.

«بروجيكت سنديكيت- معهد العلوم الإنسانية» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top