يبدو واضحاً للعيان أن أقطار الوطن العربي تمرّ بمنعطف تاريخي لم يسبق له مثيل، وأنها مقبلة على تغييرٍ عظيم يمسّ جميع البنى الفكرية والاجتماعية والاقتصادية والعلمية والسياسية والعسكرية والثقافية والفنية والإعلامية وغيرها.

Ad

وإذا كان الحراك الشعبي العربي السلمي المزلزل، الذي انطلق بشعارين أساسيين هما: إسقاط الأنظمة الحاكمة، والمناداة بالحرية، فإن ما يجب الانتباه إليه هو حتمية وصول روح الجديد المتحررة والجزعة بالظلم والجور والبؤس، إلى مختلف مناحي الحياة وتأثيرها فيها، وإعادة صياغتها بشكل مختلف عما كانت عليه... صحيح أن عربة المنعطف العربي لم تزل في بدايتها، وأن ملامح صورة المختبئ لم تتضح بعد، وأن الحياة بحاجة إلى وقت كاف كي تأخذ دورتها الجديدة، لكن الصحيح أيضا أن التغيير قادم، طال الزمن أو قصر، وسيكون تغييراً جذرياً ولن يوفر أحداً في طريقه.

الكثير من المفكرين والأدباء والمبدعين والمثقفين العرب، كانوا ينظرون إلى قسوة الواقع العربي، متمثلاً في الأنظمة التسلطية والدكتاتورية، ويطلقون أحكاماً ناجزة مفادها أن الإنسان العربي يعيش خارج سياق ورتم اللحظة الإنسانية الماثلة، وأنه لا أمل في قدرته على النهوض ومعانقة ألق الحاضر، لكن حركة الشعوب العربية بانتفاضتها السلمية، جاءت مفاجئة وصاعقة، ليس فقط للمفكرين والمنظرين العرب، بل هي صادمة لعدد كبير من مفكري دول العالم المتطور، الذين كانوا يرون الإنسان العربي خاملاً دونما همة أو حراك فكري، وها هم يعايشون لحظة مختلفة بإنسان عربي مغاير.

إن نظرة متأملة لما حدث ويحدث من انتفاضة وثورة شعبية سلمية عربية يدل دلالة واضحة على أن المعاناة العربية لم تذهب هباء، وأن كل التضحيات التي قدمها شرفاء الأمة كانت في مكانها، على طريق الكرامة والعزة، وإذا كان صبر وتحمل الشعوب العربية قد طال، حتى ظن البعض أنه أصبح خصلة تلازم العربي، فإن احتراق ذاك "البوعزيزي" التونسي، وانطلاق فجر 25 يناير في مصر، وما تبعهما في كل الأقطار العربية، ليؤكد تلك المقولة العربية القحة: اتق غضبة الحليم.

لقد كانت الشعوب العربية حليمة في صبرها، وحليمة في تحملها، وحليمة في تضحياتها، وحليمة في انتظارها الطويل لبارقة أمل بتحول الأنظمة التسلطية والدكتاتورية عن مسارها، لكن حلمها نفد في لحظة تاريخية إنسانية متغيرة، وجاء بغضب مزلزل هزّ أركان العالم.

إن الظرف التاريخي الإنساني الذي انطلقت فيه الانتفاضات العربية الشبابية، جاعلة من محركات البحث على الشبكة العنكبوتية، ومواقع الانترنت، وشبكات التواصل الاجتماعي، جزءاً لا يتجزأ من حراكها إنما أثبت للعالم أجمع أن الشاب والإنسان العربي نبه لما حوله، وهو يعيش عصره كباقي خلق الله، وأنه قد آن الأوان لكي تتغير نظرة الآخر حيال العربي... وهل أجمل من ثورة سلمية ترفع شعار الحرية، وتناضل في سبيل إعادة الحق والخير لشعوب المنطقة؟

لقد صنعت الثورات العربية في بداية القرن العشرين تاريخها، ورسمت خرائطها، وأفرزت قياداتها وشعاراتها وانعكس ذلك كله على الشعوب العربية، بعدها جاء الكثير والكثير، وطبع الإنسان العربي بالوجع والخيبة، وليس أدل من قضية فلسطين وهزيمة 67، لكن العجلة دارت وجاءت اللحظة التي حلم بها الإنسان العربي لتكون بداية لحياة جديدة وكريمة.

الناظر إلى ما يجري في تونس ومصر وليبيا وسوريا واليمن، وانعكاس ذلك على مجمل الأقطار العربية، يرى بوضوح أننا أمام مشهد عربي جديد. مشهد ما سبق لأحد أن تصور مفرداته وأحداثه، لذا لابدَّ أن نوطن أنفسنا على القادم، ولابدَّ لنا من اليقين بأن الأجيال العربية القادمة ستعيش حياة مغايرة للتي عشناها نحن، وكم هو الأمل كبير أن تكون مليئة بالحرية والديمقراطية والفكر والخير والسلام والرفاه.