أزمة المجتمع المدني والثورات العربية

نشر في 23-11-2011
آخر تحديث 23-11-2011 | 00:01
No Image Caption
 د. شاكر النابلسي - 1 -

ما زال المجتمع المدني العربي يعيش في أزمة خانقة، كما يرى معظم علماء الاجتماع العرب، وعلى رأسهم عالم الاجتماع السوري-الأميركي حليم بركات. فالدولة العربية (دولة الاستقلال) هيمنت على معظم مرافق الحياة العربية، وقامت بتهميش الشعب، والحد من مبادرته، ومشاركته في عملية التغيير، وذلك بحرمانه من حقوقه السياسية، ومن إقامة المنظمات والهيئات السياسية، والاجتماعية، والثقافية، والاقتصادية، التي تساعد على تغيير المجتمع من داخله. كما قامت الدولة العربية باحتكار السلطة في فئة معينة من الناس، وحالت بين السلطة وتداولها، وخالفت مبادئ الإسلام الذي ينادي بتداول السلطة "وتلك الأيام نداولها بين الناس" (آل عمران: 140).

ويشير المفكر التونسي العفيف الأخضر في مقاله "تداول الأجيال، أو الطوفان" ("الحياة"، 1/9/2002)، وفي مقاله "ألا تستحق الدولة الفلسطينية تغيير القيادة؟" ("الحياة" 30/6/2002)، وفي مقاله "رسالة مفتوحة لعرفات: اقبل تضحية أخيرة من أجل فلسطين" ("الحياة"، 7/7/2002) إلى أن تعطيل تداول السلطة في العالم العربي على نحو ديمقراطي، امتد نحو نصف قرن– منذ قيام دولة الاستقلال العربية- وكانت نتيجته وضع بن لادن للعالمين العربي والإسلامي في عين العاصفة، كما هو الآن، ومنذ 11/9/2001. وكانت نتيجته أيضاً ضياع الفرص السياسية المتكررة والمواتية، لقيام الدولة الفلسطينية التي باءت بالفشل قبل أيام في الأمم المتحدة ومجلس الأمن، وأصبحت شبه مستحيلة، وبذا ضاعت فرص سياسية كثيرة أمام الفلسطينيين، وأصبحت دولتهم المنشودة في الخيال فقط.

- 2 -

قامت منذ نصف قرن في العام العربي، ما يُعرف بأزمة المجتمع المدني التي ردها كثير من علماء الاجتماع العرب إلى هيمنة "دولة الاستقلال" هيمنةً بطريركية على نشاطات المجتمع السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية. فمنذ قيام "دولة الاستقلال" العربية مع بداية النصف الثاني من القرن العشرين، نشأت أزمة المجتمع المدني العربي بقيام الدولة التسلطية العربية لملء الفراغ السياسي الذي تركه الاستعمار البريطاني والفرنسي والإيطالي في العالم العربي. وكانت أزمة المجتمع المدني العربي هذه إحدى الكوارث التي جلبها الاستقلال السياسي "الشكلي" على العالم العربي. ويحلل علماء الاجتماع العرب سبب أزمة المجتمع المدني العربي هذه من خلال قول حليم بركات أحد علماء الاجتماع المعاصرين السوريين-الأميركيين، من أن أزمة المجتمع المدني العربي ناتجة عن هيمنة الحكم العربي على المجتمع، وعن تهميش الشعب، والحد من مبادراته ومشاركته في عملية التغيير، بحرمانه من حقوقه الإنسانية الأساسية، ومنها حقه بالعمل المنظم، والتعبئة الشعبية، من خلال مؤسساته، وجمعياته المهنية، واتحاداته، ونقاباته، وأحزابه، ومختلف الحركات الاجتماعية المستقلة التي يمكن العمل من خلالها على تغيير الواقع.

وإن البحث في أزمة المجتمع المدني هو البحث في ممارسات الدولة التعسفية للسلطة، فلقد سلبت الدولة العربية المجتمع من وظائفه الحيوية، واحتكرتها لنفسها، كما يقول عالم الاجتماع حليم بركات في كتابه الضخم ("المجتمع العربي في القرن العشرين"، ص 923).

- 3 -

أما العوائق التي تعيق قيام المجتمع المدني فهي كثيرة، ويحددها بعض المفكرين العرب بالتالي:

1- عدم تحول نظام الحكم إلى مؤسسة دستورية، وبقاء نظام الحكم دكتاتورياً قروسطياً.

2- عدم تشرُّب الحاكم لثقافة التداول على الحكم، رغم أن تداول الحكم نص إسلامي قرآني، "وتلك الأيام نداولها بين الناس".

3- عدم تعوّد المعارضة على تقديم المقترحات والبدائل- غير التعجيزية - للوصول إلى التوازن الضروري بين السلطة والسلطة المضادة (المعارضة).

4- وجود عجز متبادل في الحوار بين السلطة والمعارضة، مما سبب ويسبب مشروعاً قوياً لتطاحن داخلي مفتوح على المجهول وانفجار الثورات الشعبية كما حصل في نهاية 2010 في تونس، وفي بداية 2011 في مصر، وليبيا، والبحرين، وسورية، واليمن.

5- عدم اطلاع الحكام في العالم العربي والإسلامي على تجارب الشعوب الأخرى، واحتكاكهم بها.

6- اعتبار الثقافة السياسية العربية والإسلامية للمعارضة بأنها خائنة، وأنها تهدد وجود الحاكم وتريد الإطاحة بالنظام.

- 4 -

فهل للمجتمع المدني في العالم العربي مستقبل يُؤمَّل به؟

إن أسئلة مستقبل المجتمع المدني العربي ستنتصر، فيما إذا كنا نسير اليوم نحو حقبة التحرر من المفهوم الكلاسيكي الحديث للدولة كمركز أحادي، ووحيد للتنظيم والتنسيق الاجتماعي، وهي الحقبة التي دامت أكثر من قرنين.

وهذا التحرر من المفهوم التقليدي للدولة، لا يعني بالضرورة زوال الدولة، وإنما زوال شكل من أشكالها. لكن الأهم من ذلك، معرفة طبيعة الهيئات والتنظيمات والمؤسسات التي ستحل محل الدولة، وتُشكِّل جماع نشاط القرن الحادي والعشرين كله، وربما القرن الذي يليه. إن العودة الراهنة إلى المجتمع، موجة عميقة الجذور، لكن طرق هذه العودة وأشكالها والنماذج التي ستنجم عنها، كل ذلك لايزال في بداياته الأولى.

والسؤال الآن هنا، من المفكر والناشط السياسي السوري- الفرنسي برهان غليون :

هل ستساعد هيئات المجتمع المدني، وهي الهيئات الأهلية الناشطة في ميدان العمل العام، على إيجاد مجتمع أكثر تحرراً، وعلى توافق أكبر بين حرية الفرد وحرية المجموع، واتساق أكبر بين مسؤولية الحاكم ومسؤولية المحكوم؟

- 5 -

سوف نسير خلال هذا القرن نحو شكل من التنظيم المدني، تخضع فيه السياسة من حيث هي بلورة للتصورات والاختيارات التي تمس المصير العام والمصائر الجزئية أيضاً. ومن حيث هي قرارات ترمي إلى تطبيق هذه الاختيارات لنشاط مجموعة لا محدودة من التجمعات والهيئات والتنظيمات المدنية غير الحكومية. والحكومة التي ستحتل مراكز القرار السياسي الرسمي لن يكون دورها سوى التنسيق بين نشاط هذه الهيئات والمنظمات، وإيجاد القاسم المشترك فيما بينها. ومن هذه الزاوية ستقدم هيئات المجتمع المدني المتعددة الجديدة إطاراً يتيح للمواطنين المشاركة بشكل أكبر وأنشط في تقرير مصيرهم، والمساهمة بصورة أقوى في السياسة من حيث هي انشغال بالمصير العام وممارسة للقرارات التي تمسه. وسيُنشئ ذلك دائرة للمشاركة السياسية موازية للدائرة التي يمثلها البرلمان، والقائمة على عملية انتخابية إحصائية محضة لا تعكس حقيقة الإرادات المجتمعية القائمة والمتنافسة على تشكيل السياسة، بل دائرة تتجاوز الدائرة البرلمانية وتخضعها لها، سواء عبر الضغوط، أو عبر التدخلات المباشرة في تكوين الرأي العام.

ويرى برهان غليون، أن منظمات وهيئات المجتمع المدني سوف تزداد نفوذاً وقوة، في تلك المجتمعات التي خسرت الرهان على الدولة، ولم تنجح في بناء مجتمع مدني قوي. خاصة تلك الناشطة على الصعيد العالمي أو المتعددة الجنسيات، وهذا هو وضع البلاد العربية والعديد من البلاد النامية. فكما أن الدولة لن تستطيع هنا أن تقاوم ضغوط هذه المنظمات، التي تزداد مطالبها بالمشاركة في تقرير السياسات العالمية، كذلك، فإن المجتمع المحطم والمفكك، الذي نشأ في حضن مثل هذه الدول سيكون إما عاجزاً عن بناء نفسه، وهيئاته الخاصة النشيطة، وإما غير قادر على المشاركة الفعالة في الهيئات المدنية العالمية الفاعلة على أرضه الوطنية ذاتها. وتلك هي واحدة من أزمات المجتمع العربي، أمام تحديات الثورات العربية الفاعلة والناشطة الآن!

* كاتب أردني

back to top