الأصولية-السلفية والأنظمة العربية السياسية

نشر في 11-01-2012
آخر تحديث 11-01-2012 | 00:01
No Image Caption
 د. شاكر النابلسي من يظن أن جذور الأصولية-السلفية قد امتدت إلى الوطن العربي من الخليج فهو مخطئ قطعاً، فتاريخ مصر في هذا الشأن أقدم من الخليج، ومصر وُجدت دينياً وحضارياً وسياسياً وفكرياً قبل الخليج بسنوات طويلة، وكانت الأصولية-السلفية منتشرة في مصر بشكل واسع قبل أن يعرفها الخليج عامة، وقد كتب الباحث علي بكر دراسة بعنوان "الخريطة الفكرية للتيارات السلفية في مصر" بيّن فيها تاريخ السلفية، وتنظيماتها المختلفة في مصر، وهو تاريخ سابق ومتقدم على الأصولية-السلفية في الخليج.

ويقول علي بكر في بحثه: "من المعروف لدى المختصين في التيارات الدينية، أن السلفيين في مصر ليسوا تياراً واحداً، وأن مصر عرفت ظهور الاتجاهات السلفية بالمعنى العام مع بواكير ظاهرة الصحوة الإسلامية في مفتتح القرن الماضي، غير أن خريطة الاتجاهات السلفية شهدت، مع توالي السنين، حالة من التنوع في الأفكار والرؤى".

ونشأ في مصر "التيار السلفي المستقل"، وهو- كما يقول علي بكر- امتداد للتيار السلفي القديم في مصر، وقد مثله العديد من المجموعات والجمعيات منذ بدايات القرن العشرين، مثل "جمعية الهداية" التي قادها الشيخ محمد الخضر حسين، وكانت تقوم على الدعوة إلى الالتزام بالسنّة، ومحاربة البدع، وكان منتموها يهتمون بالهدي الظاهر في المسائل المتعلقة بشكل الملابس، واللحية، وشعر الرأس، والحجاب، وغيرها من هذه الأمور.

ولا يؤمن هذا التيار بالعمل الجماعي التنظيمي، كما أنه لا يشتغل بالسياسة، ولا ينشغل بها أصلاً، لكن هناك من أكد أن رموز هذا التيار يبدون آراءهم في الشأن السياسي في جلسات سرية لأتباعهم المقربين، ويقتصر كلامهم السياسي على شرح تصوراتهم للواقع السياسي، ومشكلاته.

الخديوية وجمال الدين الأفغاني

ولكن منذ عهد الخديوية في مصر 1867، كانت السلفية-الأصولية تؤدي دوراً سياسياً مميزاً في مصر، وساعد على ذلك ظهور مفكرين أصوليين-سلفيين من وزن جمال الدين الأفغاني الذي كان صديقاً وملازماً للخديوي توفيق (1852-1892) وكان على رأس هؤلاء جمال الدين الأفغاني، الذي توَّج الملكية "الخديوية" المصرية، ونصَّبها كنظام سياسي وحيد، يصلح لهذا الشرق، وذلك مداراةً للخديوي توفيق، رغم أن هذا الخديوي كان عدواً لدوداً للديمقراطية.

فلنقرأ كيف كان يخاطب أشهر مصلح سياسي وديني أصولي-سلفي، في القرن التاسع عشر الخديوي توفيق، وكيف كان يُخفض له جناح الذل من المعارضة والإصلاح، ويدلَّه على أفضل طريقة للحكم، وهي الملكية الشورية (التي يُخيّر فيها الملك بين أن يأخذ بالشورى، أو لا يأخذ بها. وإذا أخذ بها، فهي لا تتعدى أن تكون نصيحة رقيقة هامسة، في جلسة سمر، تتبعها دُعابة، لكي تشرح صدر السلطان، بعد أن تكون النصيحة قد غمَّته!)

يقول الأفغاني للخديوي: "مِنْ عقلاء الملوك مَنْ حكَّم عقله فأرشده، إلى استبدال مُطلق المُلك بالمُلك الشوري، فاستراح وأراح، وهذا الشكل من الحكم هو الذي يصلح لمصر، ولدول، وإمارات الإسلام في الشرق. وهذا الشرق بحاجة إلى مستبد عادل، أما الحكم الجمهوري فلا يصلح لا للشرق، ولا لأهله اليوم". (الأعمال الكاملة، ج2، ص333).

ولا نعلم كيف يمكن للعدل أن يستقيم مع الاستبداد، أو يستقيم الاستبداد مع العدل؟ أم أن المسألة هي عدالة الاستبداد، بمعنى أن الاستبداد موزع بالعدل والقسطاط بين الناس؟

وكأن الأفغاني كان يرُدد الحديث النبوي المُختلق، الذي وضعه الأمويون لتثبيت عرشهم، وإعطائه الصبغة الشرعية، والقائل:

"الخلافة بعدي ثلاثون سنة، وبعد ذلك مُلْك".

وبالفعل، فإن الخلفاء الراشدين حكموا قرابة ثلاثين سنة (632-661م) وجاء من بعدهم المُلك الأموي العضوض، واستمر إلى الآن.

كذلك، كان الموقف نفسه لجماعة "الإخوان المسلمين" من الملكية المصرية قبل اغتيال المرشد العام حسن البنا، حيث سعى "الإخوان المسلمون" مع الأزهر (كان مصطفى المراغي شيخ الأزهر آنذاك) إلى تنصيب الملك فؤاد خليفة للمسلمين، وإقامة الخلافة في مصر بدل الخلافة التي أطاح بها أتاتورك 1924. كذلك جرت المحاولة نفسها في عهد الملك فاروق، وأدى "حزب الوفد" دوراً محورياً في منع ذلك. وكذلك، كان موقف "الإخوان المسلمين" من أنظمة السلطة في الخليج، والعراق الملكي، وليبيا الملكية، والأردن، والمغرب. ومن هنا يتبين لنا أن الخطاب الإسلامي، لا يخرج في مسألة الديمقراطية عن تجربة الشورى الراشدية العُمرية، كورقة وحيدة رابحة، طوال خمسة عشر قرناً، فكل حديث عن الشورى الإسلامية يدور حول هذه التجربة اليتيمة التي تمَّ نقضها في عهد الخليفة عثمان بن عفان، وما تبع بعد ذلك، وفيما يقول أحد كبار رجال المؤسسة الدينية، وشيخ من شيوخ الأزهر، من أن "عمر بن الخطاب أخذ جادة الرسول في الشورى شبراً بشبر، وذراعاً بذراع. وهو القائل في الولاية: "من قام بهذا الأمر، فإنه تبع لذوي الرأي، فيما رأوا، ورضوا به". وكذلك، فعمر بن الخطاب يشدد على أنه حق على المسلمين أن يكونوا وأمرهم شورى بينهم، وبين ذوي الرأي منهم". (محمد الخضر حسين، "الحرية في الإسلام"، ص22).

الزعيم الديني والسياسي الوحيد

ومن الملاحظ هنا، أنه لا يوجد في التراث الإسلامي أو التراث العربي طيلة خمسة عشر قرناً مضت، من تحدث عن الشورى وضرورتها كعمر بن الخطاب. وكأن هذا الخليفة الراشدي هو الزعيم الديني والسياسي الذي كان نسيجاً وحده، ومن بعده تقطَّعت أوصال الديمقراطية أو الشورى، وغدت صدىً، وذكرى موجعة وحزينة.

والإسلاميون السلفيون اليوم، يرفضون الديمقراطية بمعناها الغربي، لا عن كراهية، ولا عن أنها تعارض الشورى العُمرية الإسلامية، ولكنهم يرفضونها لأن آلياتها المُعقدة الحديثة مُتعسَّرة الفهم عليهم، وعلى الأحزاب الإسلامية، كما أن تنفيذها يستدعي استعداداً ثقافياً واجتماعياً وحضارياً، غير متوافر لديهم، ولدى الأحزاب السياسية الإسلامية الأخرى.

السلفية الجديدة

وبعد 25 يناير 2011، ظهرت في مصر، ما أُطلق عليها "السلفية الجديدة" التي كانت داعمة للمجلس العسكري الأعلى في مصر، وهو السلطة السياسية الوحيدة في مصر بعد 25 يناير 2011، وكانت أبرز مظاهرها:

1- التآلف الفكري والديني والعقدي والسياسي بين الأصولية "الإخوان المسلمون" والسلفيين الجدد، ويقول الباحث السياسي السوري حمود حمود إن "الاختلافات العلنية السابقة بينهما، التي كانت تظهر للعلن، ليست سوى فقاعات فقهية، أو في أحسن حالاتها إعلامية "سياسية"، أما في عمق تفكير هذين الاتجاهين، فالوضع مختلف".

2- إن الأصولية المتمثلة بـ"الإخوان المسلمين" أكثر مهارة سياسية من السلفيين الجُدد البسطاء، ويقول أحد الباحثين في تاريخ "الإخوان المسلمين"، إن "مفردات الإخوان مطعّمة بالحداثة والديمقراطية حيناً، وبمفردات اللاهوت الديني حيناً آخر، وليس ثمة من مشكلة معرفية عند "الإخواني" إذا جُمعت هذه المفردات جميعاً في سلة واحدة، لطالما أن الغاية لا تبرر الوسيلة فقط، إنما تصبح قواماً إيديولوجياً، يسير "الإخواني" وفقاً لمقتضياته".

3- أما بنية التفكير السلفي، فترفض رفضاً قاطعاً فكرة الديمقراطية لكونها ليست فقط "منتجاً صليبياً غربياً"، إنما لتعارضها الجوهري مع البُنى الثيولوجية التي يحملها السلفي في كيانه الديني، خصوصاً أنها تُكرِّس مبدأ التعددية في الحكم على حساب الحكم الواحدي للآلهة.

ويقول السلفي: "سيفان لا يجتمعان في غمد واحد". ولا يستطيع "الإخواني" أن يعتقد بعكس هذا الكلام، ما دام عقله مرتهناً إلى لاهوت ديني؛ لكن ربما يبدو لنا أنه أقل حدة في هذه النقطة من أخيه السلفي، كما يقول الباحث السوري حمود حمود ("إخوان السلفية: ما يجمعنا أكثر مما يفرقنا"، موقع "الأوان"، 21-7-2011).

* كاتب أردني

back to top