هكذا هي قوانين الحياة... يضغط الشاعر بقوة على أعصابه ومشاعره وأحاسيسه ويستعين بكل معارفه من الجن لينظم قصيدة محبوكة مسبوكة، ويعاني الملحن ما يعاني ليخرج بلحن «يركب على» القصيدة، ويلامس ذائقة الجمهور، وبعد كل هذا العرق والتعب والأعصاب، يتقاضى كلّ منهما مبلغاً لا يكفي «الباب الأول» من احتياجاتهما، ليأتي بعد ذلك المطرب الذي وُلِدَ وفي فمه حنجرة جميلة، جاءت من دون أي مجهود منه، فيغني، فيكسب الملايين والشهرة والمكانة.

Ad

الشاعر السعودي العميق «نايف صقر» اختصر لنا المسألة عندما قال: «الموت حظ القلم والمجد للدفتر»، فعلاً... يشقى القلم وينزف، في حين يستلقي الكتاب على ظهره فيُمتدح، ويقال: «كتاب فلان الفلاني في غاية الجمال»، ولا يتطرق إلى سيرة قلمه.

ونتمايل طرباً ونمتدح عبدالمجيد عبدالله في أغنية «يا طائر الأشجان»، مثلاً، ولا نعرف شاعرها ولا ملحنها (الشعر ليحيى حداف والألحان للنجم الذي انطفأ، أو أطفأ نفسه، خالد الشيخ، صاحب أغنية «يا عبيد» الخالدة)، وسنعتبر المطرب كريماً متواضعاً إذا ذكر اسميهما في لقاء تلفزيوني أو صحافي.

هكذا هي قوانين العصر، فبعد أن كان المجد في الجاهلية للشعراء، ولا مجد للمطربين والمطربات، رغم إتقانهم الشعر وامتلاكهم الذائقة، جاء عصرنا هذا ليفرض قبحه وظلمه، فتسيّد عبدالمجيد عبدالله وراشد الماجد ونبيل شعيل وغيرهم ممن لا يمتلكون أدنى ذائقة شعرية، ولا يعرفون من المحسنات اللفظية حتى اسمها، فلا وجود في قواميسهم لمصطلحات «الكناية والتشبيه والتورية والاستعارة والمجاز...»، ولا يفهمون الوزن الشعري، ولا يفرقون بين قصيدة وأخرى إلا بحسب اسم قائلها ومكانته الاجتماعية، والمالية أحياناً.

تأملوا كلمات بعض أغاني راشد الماجد. وخذوا هذه على سبيل الحزن والقهر ليس إلا:

«بيني وبينك شي أكثر من الأحلام، حقيقة حبي لك ما هو حكي وأوهام، تسهر مع أشواقي تحت الرموش تنام، ومنك أقل كلمة تخفف الآلام، زاد الوله فيني قلبي في حبك هام، واللي يحب مثلي ما تغيره الأيام»، إنا لله وإنا إليه راجعون. ولو أننا طلبنا من الشاعر إضافة بيتين لقال: «تعالي نروح للسينما نشوف آخر الأفلام، شدعوه ما تردين شدعوه صاكة الجام»، لكن الحمد لله أنه توقف قبل وقوع الكارثة بقليل... وها هو «السندباد» كما يحلو لمريديه تسميته، راشد الماجد، بجلالة سطحيته وقماءة ذائقته الشعرية يحتار في ثروته وشهرته ومعجبيه ومعجباته.

وتأملوا كلمات بعض أغاني زميله في السطحية نبيل شعيل، وخذوا هذه على سبيل البكاء:

«حالتي حالة من يوم تركوني وحيد، الله لو يرجعون أسعد إنسان أكون / بالوصل فرحتي وبالهجر ماني سعيد»! ألا لعنة الله على الشعر بأوزانه وسحره وقوافيه وكل ما يمت إليه بصلة نسب أو قرابة إن كان هذا شعراً... ومع ذا ورغم ذا ها هو نبيل على سنام المجد محتاراً في أعداد معجبيه ومعجباته.

واسألوا عن نايف صقر وعن شعره وستجدون أن شهرته لا تصل إلى واحد في المئة من شهرة الإخوة السطحيين... تعالوا اسمعوا نايف واغسلوا زجاج ذائقتكم بكلماته لتروا الجمال بوضوح:

«الموت حظ القلم والمجد للدفتر، حبر القلم غلطتي وايامي أوراقي / الخوف يجتاحني.. وجه الطريق أسمر، راح أكثر العمر يا خوفي على الباقي / يا صوت لا تلتحف صمتي ولا تصبر، قل ما تبي واترك الهقوة على الهاقي / ثراي ما ينشد الغيمة متى تمطر، مدامها في سماي تحن لاغراقي»...الله الله الله يا نايف. أين أنت يا عظيم؟ تعال فالقلم يستجديك وأمثالك للانتقام ممن استهانوا به، تعال يا نايف لتقف أنت وأمثالك العظماء على أبواب المكتبات دروعاً بشرية كي تمنعوا المستشعرين من الإساءة لتاريخ الأقلام، تعال يا نايف فالبعض يتعامل مع الشعر كما يتعامل مع القمصان التي لا تحتاج إلى كيّ... اغسل والبس.